للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معاتبة أعطر من أريج الزهور]

ومعاتبة أخرى أعطر من أريج الزهور: يا نفس! ما لي أراك مطمئنة والغالب عليك الفرح والسرور، وشواهد المقت بادية عليك، ودلائل الغضب بينة فيك، في كثير من أحوالك قد اطمأننت وسكنت، وكثيراً ما يغلب عليك الفرح والسرور في أكثر الأحوال، وأنت ترين فيك من الله دلائل الغضب وشواهد المقت، ثم لا تبكين ولا لذلك تكترثين، كأنك لغضب الله تطيقين، ولعذابه تجهلين، هيهات هيهات! إنك عن دون الله لتضعفين، ومن أقل أذى الدنيا تجزعين، فكيف بشدة غضب الله وأليم عذابه؟! ولكن عقوبات الله منعتك من أن تجزعي، فكيف يصنع الله بمن لا يجزع من غضبه، ولا يتوجع من أليم عذابه، ولا يصلح على آدابه، ولا يقبل عليه بالإقلاع شكراً لدوام نعمائه، ولا ينحاش ولا يهرب إليه؛ لما يرى من سوء آثار عقوباته في الدنيا خاصة دون معاشه في نفسه وعياله؟! ويحك يا نفس! ويحك يا نفس! ألم تري أن مولاك قد أبعدك عما كان يتعاهد به قلبك من هيجان التيقظ وقوة التنبه، والدوام على ذكره والجزع من نسيانه وشدة عذابه، ولقد رغب الله قلبك في أول أمرك، وتأديباً كانت بلية الله فيك، وتقريباً منه إليك، وتحنناً منه عليك فنبه قلبك عن الغفلات، ومن عليك بجود الحلاوة عند الطاعات، وشدة التلذذ بالمناجاة، فأصبحت وأمسيت مباعدة من الله، مطرودة عن بابه، منحاة من قربه، قد حل بك منه الخذلان، تتمادين في الغفلات فلا يوقظك، ويدوم منك النسيان فلا ينبهك، وتكون منك الزلة بعد الزلة فلا يدوم لك الحزن، ولا يطول بك الغم، بل قد قلب التنبه فيك فصار لا ينبهك ولا يذكرك، ثم يحدوك بالعقوبة عن استعمال التذكر وطاعة التنبه، فصرت في شر حال، وبعد ذلك طول الغفلة ودوام النسيان لنظر الجليل العظيم.

ثم شهوتك لترك استعمال التذكر وطاعة التنبه، طول غفلة وجرأة وإقدام على الذنب، وما تخافين أن تحرمي الخلود في جواره، هل سمع السامعون بأسوأ منك حالاً؟ هل عرف العارفون بأشر من منزلتك؟ ثم مع ذلك الحزن عنك زائل، والغم لك مباين، والتوجع لك غير لازم، وقد رآك مولاك في أسباب الدنيا بأضداد ذلك كله، شغلك بطلبها دائم لا تملين، تنشطين وتقوين إذا رأيت الزيادات في معاشك، وتنكسرين إذا رأيت النقصان فيه، ولا يكون ذلك فيما بينك وبين ربك إلا في أقل الأوقات، قد أصبحت عند الله مفتضحة، ومن البعد منه غير مكترثة، لقد أصبحت وأمسيت وهو عليك غير مقبل، ولك غير مقرب، مقصاة منه، مباعدة عنه، ولولا تفضله عليك بالعفو لسلبك نعمة الدين كلها، ولكنه يبقي من العقوبة تفضلاً منه وإحساناً وكرماً على عبيده.

ويحك ما لك في الجهل مفعمة مغموسة، وفي البلايا متلوثة؟ ويحك هل عقلت من تعصين؟ ويحك تتمادين في الغفلات فلا يوقظك، ويدوم منك النسيان فلا ينبهك، فكيف لا يغلب ذلك عليك وأنت في كل يوم في نقصان، في كل يوم لا تفرين من المعاصي؟! إن تبت لا تلبثين أن ترجعي عن توبتك وتعودين في تخبطك، إن عزمت لا تقلعين، وإن فعلت ما عزمت عليه فمن الآفات لا تسلمين عن حب محمدة أو عجب، تعاهدين فتغدرين، وتعدين فتخلفين، وتحلفين بالله ثم لا تفين، فلو كنت جاهلة كان أخف للحجة عليك، وكان أبعد لك عن الجرأة عن مولاك، ولكن عظمت عليك الحجة، ودامت منك الجرأة، إن كنت للآثار طالبة، وللقرآن حافظة، وفي الدقائق من الحكمة مناظرة، وبحسن العظات نافقة، تدعين إلى الله وأنت منه فارة، وتذكرين بالله وأنت له ناسية، تعظمين الله بالقول وأنت بالفعل غير معظمة، ويحك! أنت اليوم مهملة، والله لك منظر، وعن قليل تنقطع المدة وتزول النظرة ولو قد تغشاك الموت وسياقه، فلقد حضرك العدم فأعطيت النية الصحيحة حيث لا يقبل، ويحك أتدرين عما ينكشف الغطاء؟ أما تخافين لو بلغ منك النفس التراقي أن تبدو رسل الله منحدرة من السماء بسواد الألوان وبشرى العذاب؟ هل ينفعك حينئذ الندم؟ هل يقبل منك الحزن، أو يرحم منك البكاء؟ ويحك! بادري حلول الأجل بالتوبة، واغتنمي عيش كل ساعة فإنك في السير مجدة، وفي كل وقت من لقاء الله تقربين.

ويحك! تكلفي الحزن واطلبيه، لعلك من الحزن الأكبر تنجين، ويحك كدري الفكر بما سلف منك من الذنوب، وعودي البكاء عيناً بالدموع قبل سيلها في نار جهنم.

ويحك! استعيني بأرحم الراحمين، واشتكي إلى أكرم الأكرمين، وأديمي الاستغاثة، ولا تملي طول الشكاية، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك، فإن مصيبتك قد عظمت، وبليتك قد تفاقمت، وتماديك قد طال، قد انقطعت منك الحيل، وانزاحت إليك العلل، لا مهرب ولا مطلب، ولا استغاثة ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى مولاك، فاضرعي إلى مولاك واخشعي في تضرعك؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل، ويغيث الطالب المتلهف، ويجيب دعوة المضطر، وقد والله أصبحت إليه مضطرة، وإلى رحمته محتاجة، فألحي بالطلب للفرج، واشتكي لعظم المصيبة، فإن المطلوب إليه كريم، والمسئول إليه جواد، والمستغاث به رءوف، أديمي الاستغاثة فإنه يغيثك، وإن من إغاثته لك أن من عليك بالاستغاثة، فليرك مولاك في مقام المضطرين الحيارى الملهوفين؛ لأنه إن أخذك بعظيم جرمك لم يغثك، وإن صفح بجوده أن يؤاخذك أسرع بإجابتك.

فادعي يا نفس! دعاء من لا يستأهل أن يجاب ولا يغاث، طامع من الجواد ألا يناقش السيئات، ولا يؤاخذ بالخطايا، يغيث من يدعو وهو عند نفسه لا يستأهل أن يجاب، ولكن حمله على التضرع معرفته بكرم المسئول وجود المطلوب ورحمة المستغاث.

اعقلي يا نفس ما فاتك من طاعة ربك، وما أفنيت من عمرك في غير التقرب إليه، فيا أسفاه على طاعته! ويا حزناه على رضاه! ويا خجلاه مما اطلع عليه! يا طول كمدك إن حرمك جواره في الآخرة كما حرمك صدق المعاملة في الدنيا! يا تقلقلك في حر جهنم إن لم يعف عنك! ويحك اذكري ما يحل بأهل عذابه من اشتعال النار في جميع أجسامهم، ووصولها إلى أحداقهم، ودخولها في أجوافهم.

ويحك كيف ترين وجع قلب عبد دخلت النار في عينه ونفذت إلى جميع بدنه؟! بل كيف بنار تأكل أمعاءه وكبده؟! بل كيف بلسان من نار يدخل في جوف قلبه ثم يلتهب في جميع أعضاء جسده؟! ويحك أتأمنين أن يكون هذا غداً نعتك وصفتك، وهذه حالك؟! ويحك ارحمي ضعف جسمك لا تخاطري به، ورقي لقلة صبرك ولا تغتري، إذا لم ترحمي بدنك من النار فمن ترحمين؟! وإن لم ترقي له فعلى من ترقين؟! والله لو تبت وأنبت وأطعت لم آمن عليك أن يردك ولا يقيلك، فاستقيليه عسى ألا يردك ولا تنالين ذلك إلا به، فافزعي إليه فزع الهالك، وتضرعي إليه تضرع الغريق، استغيثي به استغاثة العطب؛ فإن المستغيث مأمول له في الاستغاثة، والله الداعي موفق للدعاء، كما كان الكريم يمن بالاستغاثة، ويهيج على الطلب وهو لا يريد ممن فعل به ذلك ألا يجبه، ولكن ليكثر المتفضل عليه بالدعاء على مقدار نقمته، وليلح بالطلب على قدر مسكنته، فلتقصير في ذلك رد أكثر المستغاثين.

أما من فتح الله عليه باب الاستغاثة، ومن عليه بالتضرع فعظم منته بذلك، وعلم أنه أعطي ما لم يستأهله، ثم داوم وواظب على الطلب فلن يخيب الله دعوته، ولن يمسك إجابته، أبى الجواد بكرمه وجوده أن يرد من أراده، فاشتكي إليه، داومي ولا تملي، فمن كان في مثل حالك لا يمل دوام التضرع بشدة المسكنة ولعظيم المصيبة.

ويحك إن لم تخافي العذاب ولم ترحمي جسدك أما تشتاقين أن يحل بك من الله الرضا، وينظر إليك بالحظوه؟! ويحك أما تحنين إلى طيب جوار الله في جنته، في روح لا يزول، ونعيم لا يبيد، وقرة عين لا تنقطع، فوق الأماني مما تشتهيه الأنفس، مع البقاء واليقين بالرضوان، وأعظم من ذلك تشتاقين إلى أن تزوري مولاك، وتسمعي كلامه لك بالترحيب، ويكشف الحجاب فتنظري إلى من لا يشبهه شيء في جلاله؟! ويحك! في هذه الدار وجب ذلك كله للعمال، وفي هذه حل الحرمان كله على الجهال، فعيشك غنيمة، وبقية عمرك إقالة، فافرحي واشكري لمولاك أن يكون الموت عاجلك فحال بينك وبين الرجوع، وقطع بك عن النزوع، وفاتك طيب جوار الله العظيم الجليل.

ويحك! لا تزهدي في الهرب من النار، ولا تستهيني بطيب الجوار، ولا تعرضي عن الرغبة في رضوان الله، إني لأقول لك هذا ولا أدري أي حال عند الله حالك، بماذا ينظر إليك في ساعتك هذه؟ بالمحبة والرضوان؟ أم بالغضب والسخط والحرمان؟ أي الدارين دارك؟ وأي القرارين قرارك؟ وأي العيش عيشك؟ فكلا الدارين قد امتلأ بسكانها، ووصل كل واحدة منها أهلها، فاطلع بقلب فارغ إلى الجنة وقد ثوى فيها سكانها إلى انفساح سعتها، وبرد طيب نسيمها، وإلى طيب ما يفوح من رائحتها، وإلى حسن بناء قصورها، وبهجة حليها وحريرها، وتلألأ نورها على أسرتها وحجالها، اطلع إلى حسن وجوه أهلها ونضرة أثر النعيم في وجوههم، وقربهم من مليكهم، ويقينهم برضا الله عز وجل عنهم، اطلع إلى اختلاف الملائكة رسلاً من الله إليهم، وتردد الولدان كاللؤلؤ في لذاتهم، اطلع إلى أنهارها على جنادل ياقوتها وقد تضمنت من أصناف البهجة في عرصاتها! ثم اشرفي بوجهك على دار الهوان والخزي انظري ببصر قلبك إلى شدة ضيقها إلى تكاثف ظلمتها وانطباق أبوابها، مسودة بالعمد عليهم، ووهج النيران فيها، انظري إلى قبيح صور المعذبين فيها وإلى شدة نتن دارهم، وتهتك أجسامهم، ونتن مقطعات ما بهم إلى النيران ملتهبة من فوق رءوسهم وأسافل أقدامهم وإلى حياض الحميم تفور معدة لشدة عطشهم، وتجاوب أصواتهم بالويل والثبور، وإلى تضرعهم إلى مالك والخزنة، وندائهم بالاستغاثة، ثم دعائهم إلى ربهم فأخسأهم فانقطعت أصواتهم، والتحمت أفواههم، وحبست أنفاسهم وبقوا بالغم والكرب لا يتنفسون إلى حلول غضب الله عليهم، وانقطاع رجائهم منه.

توهمي ما تضمنته حواشيها من صنوف الهوان والألوان من العذاب، فإنك إن نظرت في ساعتك هذه إلى كل واحدة منها، وعظيم ما فيها، ثم لم تأمني حرمان جوار الله والخلود في دار عذابه أشفقت وإن أشفقت حذرت، وإن حذرت أيقنت بكل ما يتوعد به؛ فتبت وأنبت ومن كل ما يكره تطهرت، فتوهمي إلى عواقب من أطاع واتقى، وعواقب من عصى الله وأساء، ولا ترضي بأن تخاطري فيما إن وقعت فيه لن تقالين، ولا إلى الدنيا تردين.

ويحك! إن الدنيا دار نجاة الآخرة، بقدر ما تحملين فيها من المكروه لله تعوضين، وبقدر ما تتركين من ملاذها تجزين، إن الجامعين بذلوا الأحزان في الدنيا