للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر ما جاء من ابتلاء الله لإبراهيم ونجاح إبراهيم فيه]

يقول ابن القيم: إن الله تبارك وتعالى يغار على قلب خليله إبراهيم، والخليل هو الذي لم يبق في قلبه شيء لغير ربه حتى من العواطف الفطرية، فسيدنا نوح قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:٤٥]، ولكن الله عز وجل في شأن إبراهيم يريد ألا يسكن قلب إبراهيم إلى غيره ولو كانت عاطفة البنوة، فرجل كبير طاعن في السن يؤتى الغلام على الكبر شيء طبيعي أن تنجذب شعبة من قلبه إلى حب ابنه، ولكن الله يغار على قلب خليله، فلا يريد لقلب خليله أن ينصرف إلى غيره حتى ولو شعبة يسيرة تتفلت إلى إسماعيل.

فيأمره الله برؤيا منامية ليست وحياً صريحاً وإنما هي منام، فلو كان غيره لتلكأ وقال: أنتظر حتى يأتيني الأمر الصريح، وأنتظر حتى أرى ذلك في اليقظة، ولكن خليل الرحمن الذي أتى ربه بقلب سليم هو شيء آخر عند الله؛ لأن مقام الخلة لم يصل إليه من البشر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام، (إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً).

فأمره الله تبارك وتعالى بذبح ولده: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢]، فلم يرد أن يتخلص من الضغط النفسي الذي هو فيه بأن يذبح الغلام، ثم بعد ذلك يتجرع مرارة الألم والندم، ولكن جمال الطاعة وقوة الإيمان ونبل التسليم لأمر الله تبارك وتعالى والرضا به أتى من منارة التوحيد، فالحادث الفريد العظيم الكريم الذي لم يسمح بمثله التاريخ أتى به إبراهيم.

قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢] خليل الرحمن إبراهيم يريد أن يرتفع بابنه إلى كمال التسليم لأمر الله تبارك وتعالى {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ} [الصافات:١٠٢] وشبح السكين على رقبته، {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢] لم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما من أدب النبوة: ستجدني إن شاء الله من الصابرين.

ومن أراد الله تبارك وتعالى له الثبات والصبر فسيثبت، ولو وكلك الله عز وجل إلى نفسك فثم الخذلان والضياع.

قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:١٠٣] أسلما الأمر كله لله عز وجل، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:١٠٣ - ١٠٥] نجزي المحسنين بأن نرفع قلوبهم إلى مستوى الوفاء لله عز وجل، ونرفع قلوبهم إلى مستوى الصبر لأمر الله عز وجل، ونجزي المحسنين بالسلام عليهم في الدنيا قبل الآخرة، سلام مسجل في الوجود، ويسطر في كتاب الله عز وجل: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:١٠٨ - ١٠٩].

انظر يا أخي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده)، فالإنسان منا بمجرد أن يكون له ولد قد يترك أمر الدعوة كلها، فإن الولد مجبنة مبخلة، ولكن سيدنا إبراهيم جاد بولده الوحيد لله عز وجل، فماذا كان الأمر؟ أعطاه الله تبارك وتعالى إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقد بشره الله بحفيده يتمتع برؤيته في حياته، ويسميه الله عز وجل: يعقوب، يعني: سيكون له عقب وذرية ونسل، بل ويجعل الله عز وجل في ذريتهما النبوة والكتاب؛ لأنه ضحى بولد واحد لله عز وجل، فأعطاه الله تبارك وتعالى إسحاق وابن إسحاق يعقوب الذي سيمتد عقبه في التاريخ، وجعل النبوة والكتاب في بيت إبراهيم، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:٣٧]، فقد بلغ إبراهيم كل اليقين، وهذا هو أصلكم الضارب في التاريخ يا من تنتمون إلى ملة إبراهيم، فهل صح انتماؤكم إلى إبراهيم؟!