للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سيرة السلف في قيام الليل]

قيل لسيدنا عمر بن الخطاب: ألا تنم يا أمير المؤمنين؟! فقال: كيف لي بالنوم، إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حضي مع الله.

لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا وسيدنا عثمان عندما مات عمر تزوج عثمان بإحدى نسائه، فلما سألوه عن سر ذلك قال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر.

اللهم بغّض إلينا ساعات أكلنا وشربنا، وارزقنا سهراً في طاعتك، اللهم ارزقنا الشوق إلى لقائك، اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، رب اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، لك أوّاهين مخبتين منيبين، وتقبّل توبتنا، اللهم واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدرونا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.

قام الخطاءون وقمنا إلى عبادتك، اللهم أصلحنا لعبادتك، اللهم أصلحنا لخدمتك، اللهم أصلحنا لخدمتك، اللهم تجاوز عن سيئاتنا اللهم تجاوز عن سيئاتنا، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ومعذرة إن كنت قد أطلت عليكم، وأقم الصلاة.

قال الشاعر: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح وهذا سيدنا أبو ريحانة الصحابي الجليل قفل من غزوه فأعدت له زوجه طعام العشاء، فأكل ثم نصب قدميه في محرابه إلى الصباح، فلما كان الصبح وأراد أن يمضي إلى الجيش قالت له زوجه: يا أبا ريحانة! غزوت فأطلت الغزو ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: لو خطرت لي على بال لكان لكِ فيَّ نصيب، قالت: يرحمك الله وما الذي شغلك عنا؟ قال: إني نظرت إلى ما أعد الله عز وجل للمتهجدين في كتاب الله من سندسها ومن إستبرقها، فذاك الذي شغلني عنكِ.

وقد سأل سيدنا موسى الله تبارك وتعالى: (من أدنى أهل الجنة منزلة، ومن أعلاهم منزلة؟ فلما سأله عن أعلاهم منزلة قال: أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:١٦])، ومعنى هذا: أن المتهجدين هم أعلا أهل الجنة منزلة، ولذلك حرص العلماء على قيام الليل، فسيدنا أبو هريرة قسّم الليل أثلاثاً بينه وبين زوجته وبين خادمه، فإذا قام هذا نام هذا، واتخذوا الليل زمناً، فإذا أسفر الصباح كانت له اثنتا عشرة ألف تسبيحة.

فإذا صلى واحد من العشاء إلى الفجر وقام الليل بعشر فإنه يجد رقة عجيبة، فما بالك إذا كان سيدنا أبو هريرة يأتي باثنتي عشرة ألف تسبيحة، ثم بعد أن يفرغ من هذا يقول: إنما أسبِّح بقدر ذنبي، وكأنهم قد أسلفوا في ليلهم الجرائم.

إنما أسبح بقدر ذنبي، وفي رواية: إنما أسبِّح بقدر ديتي.

وسيدنا عبد الله بن عباس اتخذ الليل زمناً، فنصفه يصلي ويدعو، ونصفه يبكي.

وحفرت الدموع خطين أسودين في وجه الفاروق، فبالله عليك قل لي عن دمع يحفر مجرى في لحم كيف هذا الدمع؟ وإحدى العابدات أخذت بيد ابنها وكان عابداً كثير البكاء بالليل، فأرته نقرة أو حفرة في البيت وقالت له: هذا موضع دموع أبيك.

والإمام الأوزاعي دخلت إحدى الجارات على أم ولد له فوجدت بللاً في مصلى الشيخ، فقالت لزوج الأوزاعي: ثكلتك أمك تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ؟ قالت: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما هذا من أثر دموع الشيخ ليلاً.

فما ظنك بالدموع إذا كانت هذه آثار الدموع الباقية.

وابن عباس ظل يبكي حتى مرضت عيناه كما قال علماء التراجم.

وسيدنا مسروق بن عبد الرحمن تقول عنه زوجه: ما كان يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام، وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه.

وكان أحد العباد إذا أتى صلاته زحفاً -وهو علي بن الفضيل - ينظر إلى أبيه ويقول: أي أبتاه! سبقني العابدون وقُطع بي، والهفاه يا أبتاه! وقتله ترداده لآية في ظلام الليل قام بها الليل، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:٢٧]، فظل يرددها حتى خرجت روحه فيها، وبكى والده وقال: واابناه، واقتيل جهنماه! ما قتل ابني إلا الخوف من النار.

والربيع بن خثيم كانوا يعلمون شعره بالليل، فإذا أتى إلى صلاة الصبح قالوا: والله إن شعر الربيع ليخبركم أنه ما توسده الليل.

وقالوا للحسن البصري: هنا رجل يحفظ القرآن وينام الليل، فقال: ذاك رجل يتوسد القرآن.

يعني: كأنه ينام على القرآن.

وضيغم بن مالك الذي صلى حتى تفحم، وصلى حتى أُصيب بمرض أقعده، قال أحد العبّاد: ما أطول بكاء ضيغم! فقالت أم ضيغم: لمثل ما ندب إليه فليكن البكاء القيامة وما فيها، يا بني وهل رأيت حزيناً قط؟ ذهب الحسن وأصحابه بالحزن.

ونور الدين محمود زنكي كان مدمناً لقيام الليل، وكان له مع رمضان حكايات وحكايات، ورمضان هو شهر بدر وشهر فتح مكة، وشهر الجهاد، رمضان هو شهر عين جالوت، رمضان هو شهر الزلاقة، رمضان هو شهر الفتوحات، فأين نحن من هذا؟ فهذا نور الدين محمود زنكي قاهر الصليبيين وما كان يتناول من إفطار المملكة شيئاً طوال شهر رمضان، وكان يبعث إلى شيخه يأتي له بالرقاق يتناوله طوال شهر رمضان، وكان مدمناً لقيام الليل، فبهؤلاء انتصر المسلمون.

يقول الحافظ ابن كثير دخل بعض المسلمين إلى بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة له فسمعوا النصارى يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون نور الدين - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما ينصر علينا بصلاته في الليل.

فهذه شهادة الكفار في حقه.

وأين منا قول أنس بن النضر: واهاً لريح الجنة، إني لأشم رائحة الجنة من وراء أحد.

وأين منا قول جعفر: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها عليّ إن لاقيتها ضرابها أين منا قول عمير بن الحمام: إنها لحياة طويلة إن مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه؟! وأين منا قول حرام بن ملحان الذي نفض الدم على رأسه وقال: فزت ورب الكعبة؟! وأين منا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل)؟ وأين منا قول أبي بكر: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد.

ورمضان يا أخوتاه شهر الدعاء، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد بسند جيد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان).

وهذا نور الدين محمود زنكي كان مدمناً لقيام الليل، وكذلك كانت زوجه عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، فقد قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي من البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، فلما مات عنها تزوجها صلاح الدين الأيوبي.

يقول القاضي ابن شداد شيخ الحنفية: كان صلاح إذا اشتد الحصار بالمسلمين يطوف على البلاد والأمصار وعيناه تذرفان الدموع، ويقول: يا للإسلام يا لعكا، ويطول قيامه ويقول: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية عن نصرة دينك، وليس لي إلا الإخلاد إلى جنابك، ودموعه تتقاطر على لحيته، قال: فوالله ما يأتي الفجر إلا ومعه خبر النصر على الأعداء.

والإمام البطل المجاهد الحافظ عبد الغني المقدسي - وهذا كان من أعظم علماء الحنابلة- رآه رجل كافر وهو يصلي بالليل، فلما كان الغد أسلم هذا الرجل لما رأى من الخشوع الذي على وجه عبد الغني المقدسي.

قالوا للحسن البصري: عجزنا عن قيام الليل! قال: أثقلتكم ذنوبكم، وقيدتكم خطاياكم، إنما يؤهل الملوك للخلوة بهم من يصدق في ودادهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم فلا يرضونه لذلك.

قالوا للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.