للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، أو وصالهم ممزقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضائق، قد تزوجت نساءهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم، فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذته، يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك الينعة؟ وأين رقاق ثيابك وأين طيبك ونحورك، وأين كسوتك لصيفك ولشتاءك؟؟ أما رأيته قد زل به الأمر، فلما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقاً ويتلمظ عطشاً، يتقلب في سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، هيهات: يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفن الميت ويا مدخله في القبر، وراجعاً عنه، ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي.

(كيف بك أخي وقد حلت بك السكرات ونزل بك الأنين والغمرات، وأنت تسمع الخطاب ولا تقدر على الجواب.

(كيف بك إذا أتاك ملك الموت لا يقرع لك بابا ولا يهاب صاحبا،

لا يُفْزِعْه جبار، وليس لأحدٍ من قبضته فِرار

ولا يقبل منك بديلا، ولا يأخذ منك كفيلا

ولا يرحم لك صغيرا، ولا يُوَقِّر لك كبيرا.

(أم كيف بك إذا وُسِّدت التراب، وبكى عليك الأهل والأحباب، وكثر عليك الأهل والأحباب، وكثر عليك البكاء والانتحاب.

وقفوا ساعةً عليك وأيسوا من النظر إليك.

(أم كيف بك إذا انتقلت من الدور والقصور إلى القبر المحفور وما فيه من الدواهي والأمور تحت الجنادل والصخور

(احتوشتك أعمالك، وأحاطت بك خطايك وأوزارك

(كيف بك أخي وقد حل الموت بساحتك، وملك الموت واقف عند رأسك حشرج صدرك، تغرغرت روحك، ثقل منك اللسان، و انهدت الأركان، وشخصت العينان، عرق منك الجبين، وكثر حولك البكاء ومنك الأنين.

(أين دارك الفيحاء، أين طيبك وبخورك؟ أين خدمك وحشمك؟ أين وجهك الناعم؟ كيف بك بعد ثلاث ليال من دفنك وقد عاثت فيك الهوام والديدان.

<<  <  ج: ص:  >  >>