للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إنَّ الدُّنْيَا رُبَّمَا أَقْبَلَتْ عَلَى الْجَاهِلِ بِالاتِّفَاقِ، وَأَدْبَرَتْ عَنْ الْعَاقِلِ بِالاسْتِحْقَاقِ. فَإِنْ أَتَتْك مِنْهَا سُهْمَةٌ مَعَ جَهْلٍ، أَوْ فَاتَتْك مِنْهَا بُغْيَةٌ مَعَ عَقْلٍ، فَلاَ يَحْمِلَنَّكَ ذَلِكَ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْجَهْلِ، وَالزُّهْدِ فِي الْعَقْلِ. فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَلَيْسَ مَنْ أَمْكَنَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، كَمَنْ اسْتَوْجَبَهُ بِآلَتِهِ، وَأَدَوَاتِهِ. وَبَعْدُ فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى النُّقْلَةِ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ كَالنَّسِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى الْوَصْلَةِ. فَلاَ يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ جَلِيلَةٍ نَالَهَا بِغَيْرِ عَقْلٍ، وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حَلَّهَا بِغَيْرِ فَضْلٍ. فَإِنَّ الْجَهْلَ يُنْزِلُهُ مِنْهَا، وَيُزِيلُهُ عَنْهَا، وَيَحُطُّهُ إلَى رُتْبَتِهِ، وَيَرُدُّهُ إلَى قِيمَتِهِ، بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ عُيُوبُهُ، وَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ، وَيَصِيرَ مَادِحُهُ هَاجِيًا، وَوَلِيُّهُ مُعَادِيًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُنْشَرُ مِنْ فَضَائِلِ الْعَاقِلِ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ رَذَائِلِ الْجَاهِلِ، حَتَّى يَصِيرَ مَثَلاً فِي الْغَابِرِينَ، وَحَدِيثًا فِي الآخِرِينَ، مَعَ هَتْكِهِ فِي عَصْرِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>