للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل مخلوق في هذه الحياة قد أودع الله فيه بعض المعلومات عنه -سبحانه- فهذا يحمل معلومات عن الله العظيم، القوي، الجبار (كالجبال والبحار).

وهذا يحمل معلومات عن الله الرحيم، الكريم (كالماء والنبات).

وآخر يدل على أن الله عز وجل هو النافع الضار، الخافض الرافع، القابض الباسط (كالرياح والمطر والمرض ... ).

وهكذا تتنوع المعلومات بتنوع المخلوقات:

فهذه الأنواع الكثيرة من المخلوقات التي تراها أو تسمع عنها لم تخلق عبثًا "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ .. " [الدخان: ٣٨، ٣٩].

فكل مخلوق له مهمة، وكل مخلوق يحمل رسالة تعريف بالله عز وجل ..

تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملأ الأعلى إليك رسائل

وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء خلا الله باطل

تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل

ولكن كيف يمكن للإنسان أن يحصل على هذه المعلومات؟!

من هنا ندرك أهم حكمة لخلق «العقل».

[الوسيلة المتفردة]

كلما ازدادت معرفة الإنسان بالشيء تغيرت معاملته له، «فالمعاملة على قدر المعرفة».

ولأن واجبات العبودية من حب وخشية وطاعة وتوكل ... ما هي إلا معاملات ينبغي أن يعامل بها العبد ربه؛ لذلك فإن نقطة البداية الصحيحة لتحقيق العبودية والتجلبب بها هي «معرفة الله» عز وجل، وكلما تعرف المرء على ربه أكثر كلما عامله بصورة أفضل، وكلما جهل المرء ربه كلما ابتعدت معاملته له عن الصورة المطلوبة "وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ" [الزمر: ٦٧].

أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية "يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" [الانفطار ٦]. ثم قال: جهله (١).

فكلما ازدادت معرفة الإنسان بربه ازداد حبه له، وافتقاره الدائم إليه، واعتماده عليه، واستسلامه المطلق له.

ولكي يعرف الإنسان ربه لابد وأن يجمع المعلومات عنه -سبحانه- والتي تحملها الكائنات التي تحيط به في كل مكان وزمان، وتحملها كذلك أحداث الحياة التي تمر به، بل إن الإنسان نفسه يحتوي على معلومات عن الله عز وجل لا توجد مجتمعة في مخلوق آخر "وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ - وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ"

[الذاريات: ٢٠، ٢١].

وكما قال الشاعر:

وتزعم أنك جِرْم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر

ولقد منح الله عز وجل الإنسان الوسيلة التي من خلالها يستطيع أن يجمع المعلومات عنه سبحانه من جميع مخلوقاته، هذه الوسيلة هي العقل.

يقول الحسن البصري: «لما خلق الله عز وجل العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، وقال: ما خلقت خلقًا هو أحب إليَّ منك، إني بك أُعبد، وبك أُعرف، وبك آخذ، وبك أعطي» (٢).

فالعقل من أعظم مخلوقات الله عز وجل، وبه من الإمكانات والملكات ما لا يمكن وصفه أو الإحاطة به، وإذا أردت أن تتأكد من ذلك فانظر إلى هذا الكون وما فيه من بلايين المخلوقات الكبيرة والصغيرة، وتذكر أنها جميعًا مخلوقة من أجلك، وتذكر كذلك أن الذي خلقها، قد طالبك بالنظر إليها، والتفكر فيها، والاستدلال من خلالها عليه سبحانه "أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ" [الأعراف: ١٨٥] فكيف لك أن تفعل ذلك إلا إذا كان الله عز وجل قد منحك الوسيلة التي تمكنك من النجاح في هذا الأمر؟!


(١) أورده السيوطي في الدر المنثور ٦/ ٥٣٤ - دار الكتب العلمية- بيروت.
(٢) شعب الإيمان للبيهقي برقم (٤٦٣٢) - دار الكتب العلمية - بيروت.

<<  <   >  >>