للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لذلك نجد جواب موسى عليه السلام عندما سأله فرعون عن الله، أنه ذكر بعضًا من المعلومات عنه -سبحانه- من خلال آثار أسمائه وصفاته المتجلية في مخلوقاته "قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى - قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى - كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى" [طه: ٤٩ - ٥٤] وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن رجب:

أخبر سبحانه أنه ما خلق السماوات والأرض ونزل الأمر إلا لنعلم بذلك قدرته وعلمه، فيكون دليلاً على معرفته ومعرفة صفاته، كما قال تعالى: "اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" [الطلاق: ١٢].

وأخبر أنه إنما يخشاه من عباده العلماء، وهم العلماء «به».

قال ابن عباس في قوله: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: ٢٨].

قال: أي إنما يخافني من عبادي من عرف جلالي وكبريائي وعظمتي.

فأفضل العلم العلم بالله، وهو العلم بأسمائه وصفاته، وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته، والتبتل إليه، والتوكل عليه، والرضا عنه، والاشتغال به دون خلقه.

ويتبع ذلك العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك، والعلم بأوامر الله ونواهيه وشرائعه وأحكامه، وما يحبه من عباده من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، وما يكرهه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة (١).

[العلم النافع]

من هنا يتأكد لدينا أن العلم النافع هو الذي يؤدي إلى تحقيق التوحيد قولا وعملا، أو بمعنى آخر: هو الذي يؤدي إلى تحسين المعاملة مع الله عز وجل فيزداد المرء له خشية وطاعة ومحبة وإنابة واستقامة على صراطه المستقيم، فإن لم يُؤدِّ العلم الذي يتعلمه المرء إلى ذلك صار علما غير نافع.

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «أعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع»، وفي حديث آخر قال: «سلوا الله علمًا نافعًا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع» (٢)، وهذا يدل -كما يقول ابن رجب- على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع في القلب فهو علم غير نافع (٣).

ويقول سفيان الثوري: إنما فُضِّل العلم لأنه يُتَّقى الله به، وإلا كان كسائر الأشياء.

وكان الإمام أحمد يقول: أصل العلم خشية الله، وقال كثير من السلف: ليس العلم كثرة الرواية وإنما العلم الخشية (٤).

وفي حكم ابن عطاء: «العلم إن قَارَنْته الخشية فلك، وإلا فعليك».

وعندما سئل الإمام أحمد عن معروف الكرخي، وقيل له: هل كان معه علم؟ فقال: كان معه أصل العلم، خشية الله عز وجل (٥).

ومن الملاحظ أن كلمة العلم في القرآن كثيرًا ما تدور حول هذا المعنى كقوله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: ٢٨].


(١) مجموع رسائل ابن رجب ١/ ٤٠، ٤١ - الفاروق الحديثة للطباعة والنشر - القاهرة.
(٢) صحيح الجامع الصغير (٣٦٣٥).
(٣) شرح حديث أبي الدرداء (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا) لابن رحب الحنبلي.
(٤) المصدر السابق.
(٥) مجموع رسائل ابن رجب ٢/ ٧٨٧.

<<  <   >  >>