للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن صور الشهوات الخفية التي تحرص عليها النفس: علو المنزلة عند الناس من خلال تحسين وتجويد العمل أمامهم، وذكر ما خفى من الأعمال الإيجابية لهم، كل ذلك قد يفعله المرء من أجل استنطاق مدحهم وثنائهم عليه، وعلو المنزلة عندهم، ومن ثم استجلاب الشعور بالرضا عن النفس ... وما أدراك ما شعور الرضا عن النفس وما فيه من لذة وحلاوة!!

وليس حرص المرء على إظهار عمله أو التحدث عنه هو وحده الذي يستجلب به مشاعر الرضا عن نفسه، بل هناك ما هو أخطر من ذلك لإمكانية ملازمته لكل عمل - في السر والعلن- ألا وهو إعجاب المرء بعمله أو إمكاناته، واستعظامه لهما.

هذا الأمر إذا ما تجاوب معه الإنسان واستسلم له فإنه يؤدي به إلى الغرور، والانخداع بنفسه ويؤدي به كذلك إلى الكبر والتعالي على الآخرين، ورفض الانصياع للحق والاعتراف بالخطأ، ويكفي أن إبليس رفض أمر الله عز وجل بالسجود لآدم بسبب تمكن هذا الأمر منه "قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ" [الأعراف: ١٢].

[خطورة الرضا عن النفس والإعجاب بها]

الرضا عن النفس والإعجاب بها من أمراض القلوب، وهو يحبط العمل الملازم له، ويعرض صاحبه لمقت الله .. قال صلى الله عليه وسلم: «النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت» (١).

وقال: «من تعظَّم في نفسه، واختال في مشيته، لقى الله وهو عليه غضبان» (٢).

وهو من المهلكات التي تهلك المرء. قال صلى الله عليه وسلم: «فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» (٣).

وقيل للسيدة عائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئا؟ قالت: إذا ظن أنه محسن.

والعُجب يؤدي إلى الخذلان وقلة التوفيق "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ" [التوبة: ٢٥].

وعندما توالت انتصارات خالد بن الوليد رضي الله عنه في العراق، بعث إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه برسالة يهنئه على النصر ويحذره من العُجب فقال له: فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تُدَّل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء (٤).

ما هو العُجب؟!

الإعجاب بالنفس كما يُعرفه عبد الله بن المبارك: «أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك» (٥).

فعندما يرى المرء أنه يملك أشياء ذاتية لا يملكها غيره، وأنه يفَضُلُهم بها فقد تلبس بالعجب.

وعندما يرى المرء أنه يملك أشياء ذاتية يمكنه -من خلال الاستعانة بها- تحقيق ما يريد فقد تلبَّس بالعجب.

فإن قلت: ولكني بالفعل عندي أشياء ليست عند غيري .. عندي صوت حسن، عندي سرعة بديهة، عندي مقدرة على الاستيعاب.

في الحقيقة هذه الأشياء ما هي إلا إمكانات وهبها الله لك، فهي ملك لربك "إِنَّا للهِ" [البقرة: ١٥٦].

وقد أعارك إياها لأجل مسمى "للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ" [المائدة: ١٢٠].

وسيستردها منك متى شاء "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ" [آل عمران: ٢٦]،"إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" [مريم: ٤٠].


(١) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٧٢٥٤).
(٢) صحيح، رواه الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وأورده الألباني في صحيح الجامع (٦١٥٧).
(٣) حسن: أخرجه الطيالسي عن ابن عمر، وأورده الألباني في صحيح الجامع (٣٠٤٥).
(٤) الأخفياء لوليد سعيد باحكم ص ١٢٩ - دار الأندلس الخضراء- جدة - نقلا عن تاريخ الطبري ٣/ ٣٨٥.
(٥) سير أعلام النبلاء للذهبي ٨/ ٤٠٧ - مؤسسة الرسالة- بيروت.

<<  <   >  >>