للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي الدعاء: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك» (١).

[مرض القلب وصحته]

معنى مرض القلب: أي عدم صحته، أو بعبارة أخري: اتجاه مشاعره نحو الهوى حتى يسيطر عليه، وبقدر هذه السيطرة يكون المرض، وعندما تتجه المشاعر كلها للهوى يتمكن المرض من القلب وتنتفي عنه الصحة، ويصبح داعي الهوى هو الآمر الناهي المطاع، كما صور ذلك القرآن في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: ٤٣].

وصور اتباع الهوى كثيرة، وتشمل كل ما تميل إليه النفس، ويجمعها قاعدة واحدة تنطلق منها وهي: حب الدنيا.

فمن تلك الصور: اتباع الشهوات، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: ٥٩].

ومنها: طلب العلو في الأرض: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: ١٤].

ومنها كذلك: الخوف على الرزق والحياة. قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: ٥٧].

وفي المقابل فإن عودة القلب إلي صحته تعني: تخلصه مشاعره من سيطرة الهوى واتجاهها إلي الله عز وجل.

قال صلي الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» (٢).

[القلب الحي]

عندما تتحرر المشاعركلها من سلطان الهوى وتتجه إلي الله عندئذ يصبح القلب حيًا أبيضًا، يشع النور من جنباته، لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض .. كما في الحديث: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها، نُكِتت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نُكِتت فيه نكته بيضاء حتى يصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر: أسود مربادًا كالكوز مُجَخِيًا، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكِر منكرًا، إلا ما أُشرِب من هواه» (٣).

فإن استغل الشيطان منه غفلة، تذكر الله فعاد إلي ما كان عليه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: ٢٠١].

وخلاصة القول: أن التغيير المنشود يستلزم بالإضافة إلى إعادة تشكيل العقل: دخول الأيمان في القلب، وتقويته في مواجهة الهوى، والعمل الدائم علي زيادته حتى يسيطر تمامًا على المشاعر ليعيد القلب إلى كامل صحته وحياته.

فإن كان هذا هو المطلوب للقلب ليحدث التغيير المنشود في السلوك، فكيف يمكن للقرآن أن يفعل ذلك؟!

[القرآن ودوره في دخول الإيمان القلب]

دخول الإيمان والنور في القلب نعمة عظيمة من الله عز وجل، كما قال تعالى على لسان نبيه: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: ٥٠].

وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: ١١١].

فالإيمان محض فضل من الله عز وجل يمنحه لمن يجد عنده الرغبة فيه، كما في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم» (٤).


(١) حديث حسن: أخرجه الترمذي (٥/ ٥٢٨ رقم ٣٥٠٢) وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم ١٢٦٨.
(٢) حديث صحيح: أخرجه أبو داود (٤/ ٣٥٤، برقم ٤٦٨٣)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (٥٩٦٥).
(٣) أخرجه مسلم (١/ ١٢٨، رقم ١٤٤)، مربادًا: أي يعلوه السواد، ومجخيًا: أي: مقلوبًا.
(٤) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٩٤، رقم ٢٥٧٧).

<<  <   >  >>