للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثانيًا: القرآن يجمع بين الرسالة والمعجزة:

القرآن دون غيره من الكتب السماوية السابقة يجمع بين أمرين عظيمين: الرسالة والمعجزة ..

فالرسالة القرآنية شأنها شأن الكتب السابقة تدل الناس على الله، وتهديهم إلى الطريق الموصل إليه، وتبين لهم العقبات والمنعطفات التي قد تقابلهم وكيف يتجاوزونها {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:١٨٥].

ولقد كانت هذه وظيفة الإنجيل أيضًا {وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:٤٦].

وكذلك التوراة وسائر الكتب {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:٤٤].

ولكن هل معرفة الطريق وحدها تكفي لسلوك المرء له، أليس هناك عقبات داخل الإنسان تحول بينه وبين السير في طريق الهدى؟

أليس الهوى وسطوته على القلب له دور كبير في تثبيط الإنسان وإقعاده عن السير في طريق الله؟

من هنا تظهر عظمة القرآن وأفضليته على سائر الكتب السابقة، فلقد أودع الله فيه معجزة خارقة، أعظم بكثير من معجزات عيسى وموسى وصالح وسائر الرسل والأنبياء السابقين عليهم أفضل الصلوات والتسليم.

إن المعجزة القرآنية الخارقة ليست فقط في بلاغته وخلوده وحفظه من التحريف، وليست فقط في صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، بل إنها فوق ذلك بكثير، فسرُّ المعجزة القرآنية يكمن في قدرته الفذة - بإذن الله - على التغيير، وبث الروح والحياة الحقيقية، وتوليد الطاقة فيمن يحسن الإقبال عليه {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى:٥٢].

المعجزة القرآنية تقوم بتوصيل تيار الحياة إلى القلب فيفيق من غفلته، ويحيا بعد موته، وينطلق إلى ربه {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام:١٢٢].

ولئن كانت الرسالة القرآنية توضح للناس الطريق الموصل إلى الله، فإن المعجزة القرآنية تقوم بأخذ أيديهم إلى هذا الطريق، وتسير بهم، وتقودهم، وتتولى إخراجهم من الظلام الذي يعيشون فيه إلى نور الله المبين في الدنيا، والجنة في الآخرة.

وهناك العديد من الآيات التي تبين هاتين الوظيفتين، منها ما جاء في سورة المائدة {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} [المائدة: ١٥، ١٦].

فهنا توضح الآيات وظيفة القرآن كرسالة هادية، أما وظيفته كمعجزة فتوضحها بقية الآية {وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: ١٦].

فالإخراج من الظلام ... من المكان الذي ألفه الإنسان يحتاج إلى قوة دافعة، وطاقة تتولد داخله تُيسِّر له اتخاذ قرار النهوض والخروج مما تعود عليه ... وهذه هي وظيفة المعجزة القرآنية، والتي اختصه الله بها ... قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ, فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (١).

يعلق الحافظ ابن كثير على هذا الحديث فيقول: معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد ..

فإنه ليس ثمَّ حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن, الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله (٢).

* * *


(١) صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (٤٥٩٨).
(٢) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٢/ ٤٧١.

<<  <   >  >>