للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الكتاب الوحيد]

من الأمور البديهية التي لا يختلف عليها اثنان أن الدافع للقراءة هو المعرفة، فالذي يتناول بيده كتابًا أو جريدة ليقرأ فيها, فإن الذي يدفعه لذلك هو المعرفة ... معرفة ما وراء الخبر وما يحتويه من معارف ومعلومات.

وفي المقابل فلا يمكن لعاقل أن يقرأ - أي شيء - بلسانه أو بعينه دون أن يُعمل عقله فيما يقرؤه، أو يفكر في معانيه!!

تخيل لو أن شخصًا يفعل ذلك ... ماذا تقول عنه؟ وكيف يكون تقييمك له؟!

ألا توافقني في أنك ستعتبره إنسانًا غير سوي.

هذا المفهوم البدهي للقراءة قد تعارف عليه الناس في جميع الأزمان والأمصار على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، فالذي يقرأ إنما يقرأ لأنه يريد أن يتعلم شيئًا من خلال هذه القراءة, والذي يطلب من غيره قراءة شيء ما، فإنه يقينًا يريد من وراء هذا المطلب أن يفهم المقصود من الكلام المقروء.

هذه -القاعدة التي لا تحتاج إلى برهان - تنطبق على جميع الكتب والصحف والمجلات الموجودة على ظهر الأرض الآن ... فقط كتاب واحد لا يتم التعامل معه بنفس الكيفية .. كتاب واحد يتعامل معه عدد كبير من الناس بطريقة عجيبة ... إنهم يقرؤونه لمجرد القراءة!! ودون إعمال عقولهم لفهم معانيه ولو بصورة إجمالية، بل ويتنافسون على ذلك ولا يجدون أي غضاضة في نفوسهم من قيامهم بهذا الفعل، ولا يجدون حرجًا في إظهار ذلك أيضًا.

أتدري أخي القارئ ما هو هذا الكتاب؟!

إنه- للأسف الشديد - أعظم كتاب على ظهر الأرض ... الكتاب الوحيد الذي ليس فيه أي خطأ أو ريب أو باطل ... إنه القرآن الكريم.

نعم، أخي القارئ, القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يقرؤه غالبية المسلمين بألفاظه فقط دون أن يفكروا في معاني تلك الألفاظ، ودون أن يُعملوا عقولهم في فهمها، والعجيب أنهم بذلك يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا.

لقد أنزل الله القرآن ليقرأه الناس ويتدبروا معانيه، ويفهموا المراد منه ثم يجتهدوا في العمل به {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص:٢٩].

فهل فعل المسلمون ما أمرهم الله به؟!!

للأسف لا، بل فعلوا شيئًا عجيبًا لم تفعله أمة من قبل ... جعلوا عملهم مع القرآن هو القراءة، ولم يجعلوا القراءة وسيلة لفهم المراد من الآيات والعمل بها، وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لقد أنزل الله القرآن ليُعمل به، فاتَخَذوا تلاوته عملا»، وقال الفضيل بن عياض: إنما نزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملاً.

ولقد أدى انشغال المسلمين بألفاظ القرآن عن معانيه إلى حرمان الأمة من مصدر عزها ومجدها، وكيف لا وهم قد اطفأوا بهذا الفعل مصباحهم الذي ينير لهم الطريق فتخبطوا في الظلمات، وسقطوا في الهاوية، وأصبحوا في ذيل الأمم ... لا قيمة لهم، ولا اعتبار لوجودهم ..

أمة صارت في المؤخرة، بينما لديها ما يعيدها إلى الصدارة والرفعة ... بين يديها مفتاح سعادتها، إلا أنها تُعرض عنه، وتتعامل معه تعاملاً شاذًا لم يحدث مع أي كتاب من صنع البشر ... لم يحدث مع أي صحيفة من الصحف، أو حتى مع قصاصة ورقية شاردة.

[أين شرفنا؟]

القرآن هو شرفنا ومصدر عزنا ... هذا هو دوره، وهذا هو قدره، ألم يقل سبحانه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:١٠] , قال ابن عباس في هذه الآية: فيه شرفكم (١).

فماذا فعلت الأمة بشرفها؟

للأسف أضاعته وهجرته وفي نفس الوقت تدّعي أنها تهتم به اهتمامًا بالغًا، ولعل أصدق ما ينطبق على حالنا مع القرآن هو أننا اتخذناه مهجورًا.


(١) الدر المنثور ٤/ ٥٦٣.

<<  <   >  >>