للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن

إذا كان للقرآن العظيم ذلك الأثر الواضح السريع على كل من يُحسن التعرض له، إلا أن هذا الأثر سيزداد ويزداد كلما طالت فترات المكث معه، وكيف لا وما من لقاء يتم بين القلب والقرآن إلا والإيمان يزداد، والنور يتوهج، والطاقة تتولد، والدافع للاستقامة يقوى.

من هنا ندرك كيف وصل الجيل الأول لهذا المستوى الإيماني غير المسبوق على مستوى البشر العاديين.

ذلك الإيمان الذي ظهرت آثاره العظيمة في كل الاتجاهات والأوقات، فمع أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يضحكون، ويلعبون، ويمارسون حياتهم بصورة متوازنة، إلا أن الإيمان في قلوبهم - كما يقول عبد الله بن عمر- أمثال الجبال (١).

ولذا كان أثر ذلك الإيمان يظهر سريعًا عند التعرض للمواقف الصعبة ..

قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين أو متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمرجاهليتهم، فإذا أُريد أحد منهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون (٢).

ولقد كان السبب الرئيس في هذا الإيمان - كما أسلفنا - هو القرآن، فلقد انكبوا على تلاوته، وأعطوه الكثير والكثير من أوقاتهم، وساعدهم على ذلك أستاذهم ومربيهم وقدوتهم، معلم البشرية، محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان دائم التذكير بمكانة القرآن وعظمته، ومن ذلك قوله: «ما من كلام أعظم عند الله من كلامه، وما رَدّ العباد إلى الله كلاما أحب إليه من كلامه» (٣).

وقوله: «القرآن أحب إلى الله من السماوات والأرض ومن فيهن» (٤).

[تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن]

لقد كان حبه صلى الله عليه وسلم للقرآن، واهتمامه به لا يُوصف، فقد سيطر القرآن على عقله، واستحوذ على مشاعره، وبلغت قوة تأثيره عليه أن شيَّب شعره، فقد دخل عليه يوما أبو بكر رضي الله عنه فقال له: شبت يا رسول الله قبل المشيب. فقال له مبينًا السبب: «شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب» (٥).

وفي يوم من الأيام قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه «اقرأ علىَّ القرآن»، فقال: أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟!، قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري».

قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء:٤١] قال: «حسبك»، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (٦).

لقد تشبع صلى الله عليه وسلم بالقرآن تشبعًا تامًا، وتأثر به تأثرًا بالغًا لدرجة أن الإمام الشافعي - رحمه الله- يعتبر أن كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن (٧).


(١) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص ٦٦.
(٢) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص ٢٩١، طبعة المنيرية.
(٣) رواه الدارمي (٣٣٥٤).
(٤) رواه الدارمي (٣٣٥٩).
(٥) صحيح، أخرجه ابن مردويه وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (٣٧٢١).
(٦) رواه البخاري (٥٠٥٠)، ومسلم (١٨٦٤).
(٧) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/ ٤.

<<  <   >  >>