للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[من آثار هجر القرآن]

اهتم أكثرية الصحابة رضوان الله عليهم بتبليغ ما يحفظونه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن بعدهم، وبدأ بعد ذلك الاهتمام الشديد بتدوين الأحاديث خوفًا من النسيان أو موت من يحفظها، وقد بذلوا في ذلك مجهودًا كبيرًا، ثم تفرع العلم إلى فروع كثيرة كالفقه والسير، وظهر علم الكلام والفرق المختلفة كالمعتزلة والمرجئة وما صاحبها من خلافات فكرية ضخمة، ومواجهات كثيرة شغلت الأمة وأضاعت الكثير من جهود العلماء في الرد على بعضهم البعض.

وبدأ الكلام عن أسماء الله وصفاته، وعن القَدَر، وعن مفهوم الإيمان والإسلام وعن مرتكب الكبيرة، وغير ذلك من الأمور ..

والذي يقرأ في هذه الخلافات - بعد أن يعيش مع القرآن ويقرؤه مرات ومرات بتدبر وترتيل وتأثر - فإنه سيخرج بنتيجة مفادها أن هذه الخلافات ما هي إلا ثمرة من ثمار هجر القرآن، وأن صيحات التحذير التي أُطلقت من الجيل الأول والتي تحذر من الانشغال بغير القرآن، أو قراءته بدون فهم ولا تأثر لم تأخذها الأجيال المتلاحقة مأخذ الجد، بل وبدأ الانبهار بالموروثات الثقافية للحضارات المختلفة، وكان ما كان من خلافات شغلت الأمة كثيرًا عن وظيفتها الأساسية.

[بناء الإيمان من خلال القرآن]

إن الذي يقرأ القرآن ويتدبره ويرتله، وينشغل به كما انشغل الصحابة، سيجد معانيه قد انطبعت في عقله، وتحولت إلى يقين، وامتزجت بعاطفته فصارت إيمانًا راسخًا رسوخ الجبال الرواسي، فالقرآن يُشرب في القلب محبة الله، وتعظيمه، ومهابته، وتقديسه ..

فالإيمان بالله، وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلا دون تعطيل أو تشبيه أو تأويل يصل لقارئ القرآن بسهولة ويسر، وإن لم يستطع التعبير عنه، والدليل على هذا أن إيمانه لا يهتز إذا ما استمع أو قرأ عن شبهة من شبهات الفلاسفة وأهل المنطق، وكيف لا، والقرآن قد أفرد مساحات كبيرة للحديث عن ألوهية الله سبحانه وربوبيته وقيوميته على خلقه، وقدرته المطلقة، وعلمه المحيط، وعزته، وجلاله، وكماله ..

وليس ذلك فحسب فقد أَوْلى قضية الإيمان باليوم الآخر اهتمامًا كبيرًا، وكذلك سائر أركان الإيمان.

كل ذلك من خلال خطاب سهل ميسر يجمع بين القناعة العقلية، والتفاعل القلبي، لينشأ الإيمان كنتيجة لتعانق الفكر مع العاطفة.

وعندما انشغل الجيل الأول بالقرآن لم تظهر تلك التساؤلات والشبهات والخلافات التي ظهرت بعد ذلك.

يقول الشيخ محمد الغزالي- يرحمه الله-: .. إن دراسة هذا القرآن الكريم، أورثتنى إحساسًا بعظمة الله، لم أحسه في قراءة كتاب آخر (١).

أحسست أن الكتاب الذي بين يدي، يبدئ ويعيد في قيادة الناس إلى الله، واستثارة مشاعرهم من الأعماق، كي يرتبطوا به، ويتوجهوا إليه، ويستعدوا للقائه ..

الحديث دائم متصل عن الله، وما ينبغي له! وعن جَعْل هذه الحياة مهادا لما بعدها (٢) ..

ويقول: ليت المسلمين استقوا عقائدهم من القرآن وحده! إذن لأراحوا واستراحوا، إن بعض هواة الجدل لم يتورعوا عن كثرة اللغط في قضايا العقيدة، فضلوا وأضلوا، ويشبه هؤلاء في الانحراف قوم غرتهم فلسفة اليونان وخيالاتهم النظرية .. تحدثوا في أصل الإيمان، فزادوا الطين بلة ..

ولا عاصم من هذه المزالق كلها، إلا التزام المنهج، والسير في معالمه (٣) ..

إنني أتلو القرآن وأترك معانيه تنطبع في فؤادي دون تقعر ولا تجرؤ (٤) ..


(١) المحاور الخمسة في القرآن ص ١٢.
(٢) المصدر السابق ص ١١، ١٢.
(٣) المصدر السابق ص ١٤.
(٤) المصدر السابق ص ١٥.

<<  <   >  >>