للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولصاحب الظلال تعليق على هذه الآية فيقول - رحمه الله-: إنه ليس المقصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق؛ أن يولي الناس وجوههم قِبل المشرق والمغرب .. نحو بيت المقدس أو نحو البيت الحرام .. وليست غاية البر - وهو الخير جملة - هي تلك الشعائر الظاهرة، فهي في ذاتها - مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك - لا تحقق البر، ولا تُنشئ الخير .. إنما البر تصور وشعور، وأعمال وسلوك، تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة، وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة. ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قِبَل المشرق والمغرب .. سواء في التوجيه إلى القبلة هذه أم تلك، أو في التسليم في الصلاة يميناً وشمالاً، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر (١).

[العبادة المؤثرة]

مما لا شك فيه أن قيام الجوارح بالعبادة مع حضور القلب وتفاعل مشاعره معها له أثر كبير في زيادة الإيمان والعبودية في القلب، وفي المقابل فإن تحرك الجوارح بالعبادة دون تحريك القلب قليل النفع، ضعيف الأثر، فالرجلان قد يكون مقامهما في صف الصلاة واحداً ولكن بين صلاتهما كما بين السماء والأرض، وليس ذلك لتفاوتهما في حركات الجوارح، ولكن لتفاوت حركة المشاعر في قلبيهما من الخشوع والذل والانكسار والمحبة لله عز وجل.

معنى ذلك أن مجرد الإكثار من العبادة بالجوارح ليس دليلا على قرب صاحبه من الله، بل دليل القرب هو مقدار العبودية في القلب والتي لا يعلم مقدارها إلا الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].

والدليل على ذلك الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالُّوها (أي عدُّوها قليلة)، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (٢).

هنا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي الليل أو يصوم الدهر كله، ومع ذلك كان أكثر الخلق خشية وتقوى لله عز وجل، بالرغم من وجود من يصلي الليل ويصوم الدهر كله.

وقس على ذلك ما وُصف به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأنه"ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره" (٣).

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: ما أعددت لها من كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت".

قال أنس: ففرحنا يومئذ فرحاً شديداً (٤).

ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا أكثر الناس صلاة ولا صياماً ولا اعتماراً، ولكنهم عقلوا عن الله مواعظه، فوجلت قلوبهم واطمأنت إليه النفوس، وخشعت منه الجوارح، ففاقوا الخليقة بطيب المنزلة وبحسن الدرجة عند الناس، وعند الله في الآخرة" (٥).


(١) في ظلال القرآن لسيد قطب (١: ١٥٩) - دار الشروق - القاهرة.
(٢) صحيح البخاري (٤٦٧٥).
(٣) المحجة في سير الدلجة لابن رجب، ص (٥٣) - دار البشائر - بيروت.
(٤) البخاري ٣٤٨٥
(٥) رواه ابن السني وابن شاهين والديلمي عن علي.

<<  <   >  >>