للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نعم، كان هذا هو الواقع الذي عاشه المسلمون الأوائل .. ومع عدم وجود تكاليف إلا أنه كان يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم، وهي مرحلة تأسيس القاعدة الإيمانية، وارتداء رداء العبودية لله عز وجل .. مرحلة تعبيد المشاعر له سبحانه، لتأتي الشعائر بعد ذلك فتُحسن التعبير عن هذه المشاعر.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول الأمر: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، ولو نزل أول الأمر لا تشربوا الخمر لقالوا: لا نترك الخمر أبدا .. أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:٤٦]، وهي من سورة القمر، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده في المدينة (١).

ويؤكد على هذا المعنى جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - بقوله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فتيان حزاير (٢)، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا (٣).

وليس معنى هذا أن نترك العبادة، أو نقول: لابد أن نفعل مثل ما فُعل مع الصحابة، فلقد اكتمل التشريع كما قال تعالي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:٣].

فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه الله علينا، ومع ذلك فلابد من التركيز على القلب وزيادة الإيمان والعبودية لله فيه، وأن نعطي هذا القدر الكافي من الاهتمام، وبخاصة في بداية تكوين الفرد المسلم، لتصبح العبادة مؤثرة تُزيد العبودية في القلب، ومن ثَم تُقرب صاحبها إلى الله أكثر وأكثر.

[تربية الأبناء على العبودية]

ولعلنا من ذلك نستخلص طريقة تربوية في تربية أبنائنا على العبودية لله عز وجل قبل سن التكليف، فمع تحبيبهم والعمل على تعويدهم على أداء العبادات إلا أن الجهد الأكبر ينبغي أن ينصب على تعريفهم بالله عز وجل، وتعظيم قدره في نفوسهم، وتعريفهم بأنفسهم، وأنهم لا شيء بدون ربهم .. انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوجه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لذلك بقوله: "يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفت الصحف" (٤).

[اقتران العبادة بالعبودية]

إن الطاعات التي فرضها الله علينا كلها أنوار، ووسائل يتقرب من خلالها العبد إلى الله عز وجل .. قال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء" (٥). ولا يمكن أن يتقرب العبد إلى ربه إلا من خلالها، فهي تعد بمثابة المركبات التي تتحرك بمن يركبها فتقربه إلى مولاه .. هذه المركبات تحتاج إلى وقود يُحركها ويدفعها للأمام وإلا لما تحركت .. وهنا يأتي الدور العظيم لمعاني العبودية والتي تُعد بمثابة الوقود لهذه المركبات.

فالدعاء على سبيل المثال وسيلة وطاعة يتقرب بها العبد إلى ربه كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" (٦).


(١) صحيح البخاري رقم ٤٧٠٧.
(٢) جمع حزير، وهو الشاب الممتلئ نشاطا وقوة.
(٣) رواه ابن ماجه بسند صحيح.
(٤) صحيح، سنن الترمذي (٢٤٤٠).
(٥) صحيح مسلم (٣٢٨).
(٦) رواه الترمذي (٣٣٦٩)، وأبو داود (١٤٤٩)، وصححه ابن حبان (٢٣٩٦).

<<  <   >  >>