للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة ... ، وأشد لك تمجيداً، وتحميداً، وأكثر لك تسبيحاً ... " الحديث.

[أهمية المعرفة]

إذن فالسبب الرئيس لعدم معاملة الله عز وجل بما هو أهله: عدم معرفته معرفة صحيحة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:٩١]، وهذا ما أنكره نوح - عليه السلام - على قومه عندما قال لهم: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:١٣]، ثم بدأ في تعريفهم بربهم لعل قلوبهم تتجه إليه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:١٤ - ٢٠].

معنى ذلك أن نقطة البداية في طريق العبودية والسير إلى الله هي معرفته سبحانه، وكلما قويت تلك المعرفة، ازدادت العبودية أكثر وأكثر، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠، ١٩١].

فهؤلاء الصالحون الذين ذكرتهم الآيات، عندما تفكروا في خلق الله، ازدادت معرفتهم به ومن ثَم َّ انعكس ذلك على تعاملهم معه بمزيد من التنزيه والخشية: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١].

يقول ابن رجب: وكلما قويت معرفة العبد لله قويت محبته له، ومحبته لطاعته، وحصلت له لذة العبادات من الذكر وغيره على قدر ذلك (١).

[غاية المعرفة]

وغاية معرفة الله عز وجل في الدنيا هي الحضور القلبي الدائم معه، أو بمعنى آخر: أن نتعامل معه - سبحانه - ونعبده كأننا نراه، فنناجيه من قريب، ونتحدث معه كأننا نشاهده ...

أن نستشعر دوما قربه منا، فنأنس به ونكثر من مناجاته.

أن نجده دائماً يتجلى بصفاته وراء كل حدث من أحداث حياتنا، فنربط أمورنا كلها به، مثل ما قال يوسف - عليه السلام - لأبويه وهو يخبرهم عما حدث له: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:١٠٠].

مع أن ظاهر الأمر أن ملك مصر هو الذي أمر بإخراجه من السجن، لكنه يرى الأمور على حقيقتها، وأن الله هو الذي أخرجه، وما الملك إلا ستار للقدر، وجندي ينفذ الأمر الإلهي ...


(١) استنشاق نسيم الأنس للحافظ ابن رجب، ص (٥٠).

<<  <   >  >>