للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:٢٤].

وهذا هو العلم النافع، والتوحيد الخالص، الذي ينبغي أن نسعى جميعاً إلى تحصيله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:١٩].

إنه العلم بالله، وربط أحداث الحياة - مهما تنوعت - به سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:١٨].

وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء: الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل، والعاقل ينظر ماذا يفعل الله به.

ويقول سيد قطب: "شهادة أن لا إله إلا الله" .. تتطلب أن يصل الإحساس بوجود الله - سبحانه - ووحدانيته حد اليقين الناشئ من مثل الرؤية والمشاهدة، فهي رؤية ومشاهدة لهذه الحقيقة - بآثارها - في أغوار النفس المكنونة، وفي صفحة الكون المنشورة .. رؤية واضحة، ومشاهدة مستيقنة، تقوم عليها "شهادة" (١).

[الاكتفاء بالله]

فإذا ما وجد المرء ربه، وربط أحداث حياته كلها به، فإن هذا من شأنه أن يجعله يوحد معاملاته، ويجعلها مع الله ..

فهو يدعو ويجاهد من أجل أن يراه ربه فيحبه ويرضى عنه ...

يتكلم بحساب، فهو يعلم أن الكلمة التي تخرج من فمه يسمعها ربه قبل أن يسمعها الناس.

ينفق النفقة ولا يهمه كثيراً من يأخذها - مادام حاله في الظاهر يدل على أنه محتاج - لأنه يعلم أنها تقع في يد الله أولا: {ألَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:١٠٤].

فالله عز وجل هو الحاضر معه في كل صفقة أو بيعة يجريها، فيستشعر أنها تتم معه - سبحانه - أولاً: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:١٠].

لا يهمه كثيراً رضا الناس عنه أو سخطهم عليه، فليس هذا مطمعه ولا ما يسعى إليه، بل مطمعه في رضاه سبحانه، كما قال الشاعر:

فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاة ُ مَرِيرَة ٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... و بيني وبينَ العالمينَ خرابُ

إذا صَحَّ مِنكَ الوُدّ فالكلُ هَيّنٌ ... وَكُلُّ الذي فَوْقَ التّرَابِ تُرَابُ

ينتظر الفرصة التي يخلو فيها المكان، وتهدأ الأصوات ليخلو بربه، ويبث إليه أشواقه، ويعرض عليه شكايته، ويطلب منه حاجته ..

يسارع في استرضائه، إذا ما وقع منه تقصير أو تجاوز.

إنه باختصار قد اكتفى بالله واستغنى به عمن سواه.

قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: من عرف الله عز وجل اكتفى به، ومن لم يعرفه اكتفى بخلقه دونه، فطال غمه، وكثرت شكايته (٢).

وهذه هي الحياة الحقيقية .. الحياة مع الله ..

كان ابن عطاء يقول في مناجاته: إلهي ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك .. لقد خاب من رضي بدونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً.

وهذا إبراهيم بن ادهم يقول: اتخِذِ الله صاحبا، ودع الناس جانباً (٣).


(١) مقومات التصور الإسلامي ص (١٩٢).
(٢) استنشاق نسيم الأنس للحافظ ابن رجب، ص (٨٠ - ٨١) -المكتب الإسلامي -بيروت.
(٣) استنشاق نسيم الأنس للحافظ ابن رجب، ص (٧٧).

<<  <   >  >>