للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[عبادة التفكر]

من هنا ندرك أهمية عبادة التفكر، وندرك مغزى قول الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة (١)، باعتبار أن التفكر يقود إلى زيادة المعرفة بالله، ومن ثَمَّ زيادة العبودية له، وحسن التعامل معه، ومما يؤكد هذا المعنى قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠]، على النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي، فأتاه بلال يؤذنه للصلاة، فرآه يبكي، فقال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: "يا بلال، أفلا أكون عبداً شكوراً، ومالي لا أبكي وقد نزل علي الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ثم قال: ويل لمن قرأ هذه الآية ثم لم يتفكر بها" (٢).

[دليل المعرفة]

ومع أن الكون هو الوسيلة الأساسية لمعرفة الله عز وجل إلا أن هذه الوسيلة تحتاج إلى دليل يدل عليها، ويفك شفرتها، ويبين كيفية التعامل معها ..

إن الذي يتعامل مع جهاز كهربائي يحتاج إلى وجود الدليل الخاص به بجواره ليتمكن من استخدمه الاستخدام الأمثل، فكيف بالكون وما فيه من بلايين المخلوقات المختلفة في أشكالها وأحجامها، وطرق معيشتها، وبيئاتها؟!

وكيف بأحداث الحياة المتشابكة والتي تكون مبهمة أحيانا؟!

إذن فمن الضروري وجود دليل يدلنا على كيفية التفكر والاعتبار بمخلوقات الله وأحداث الحياة والاستدلال من خلالها على الله عز وجل.

لابد وأن يكون هذا الدليل قد جاء من عند الله فلا يختلف عليه أحد، ولا يتشكك فيه أحد.

من هنا يأتي دور القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل إلى الناس كدليل يدلهم عليه ويعرفهم به: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:١٧٤].

فلا يعرف الله إلا الله، وهو سبحانه قد تولى تعريف نفسه إلى عباده بالقدر الذي تتحمله عقولهم وذلك من خلال رسائله لهم، والتي خُتمت بالقرآن.

فآيات القرآن تعرفنا بالله عز وجل، وتدلنا كذلك على كيفية التطبيق العملي لهذه المعرفة في الكون .. ألم يقل سبحانه: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:٥٩]. وقد أورد ابن كثير عن شمر بن عطية أنه قال في تفسيره لهذه الآية: هذا القرآن خبير به (٣)، وهذا ما أكده ابن عباس بقوله: "عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي"، أي: هو الذي عرفني بنفسه من خلال حديثه عن نفسه في كتابه، ولولا هذا الوحي الذي أنزله الله لما عرفت الله (٤).

[طريقة فريدة]

والمتدبر لآيات القرآن يجد فيها طريقة فريدة في تعريف الناس بربهم وبأسمائه وصفاته، وآثارها في الكون والنفس مع ربط المعرفة بأحداث الحياة قدر المستطاع، لينتقل القارئ بسهولة من آيات الله المقروءة في كتابه إلى آيات الله المرئية في كونه، فيحدث لديه الانسجام بين الإثنين ويتأكد مدلولهما في يقينه، فإذا ما صاحب ذلك تأثر وتجاوب قلبي شكل هذا المدلول إيمانا يظهر أثره في السلوك.


(١) إحياء علوم الدين (٥:٥) - دار الحديث - القاهرة.
(٢) رواه ابن حاتم وابن حبان في صحيحيهما. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال الشيخ الألباني: حسن.
(٣) تفسير القرآن العظيم (٣:٣٠٤) - مكتبة العبيكان - الرياض.
(٤) أسماء الله الحسنى لعمر الأشقر، ص (١١) - دار النفائس - الأردن.

<<  <   >  >>