للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والذي يريد أن يدعو الناس إلى الله ويحببهم فيه، عليه أن يعزم عزيمة صادقة ويشتد حرصه على ذلك .. جاء في الأثر: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: يا آدم أحبني، وحببني إلى خلقي، ولا تستطيع ذلك إلا بي، ولكن إذا رأيتك حريصاً على ذلك أعنتك عليه (١).

والذي استدان من شخص (ما) مبلغا من المال، وهو في قرارة نفسه ينوي بصدق ويعزم على أدائه، رزقه الله ما يسد به دينه، كما في الحديث «من كان عليه دين ينوي أداءه كان معه من الله عون، وسبَّب الله له رزقا» (٢).

[عزيمة امرأة]

عندما صدق عزم امرأة عمران في أن يكون الجنين الذي تحمله في بطنها لله، وألا يكون فيه أي حظ من حظوظ النفس، كافأها الله عز وجل بولادة مريم الصديقة، والتي أصبحت بعد ذلك أمًّا لرسول الله عيسى عليه السلام {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ - فَتَقَبّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: ٣٥ - ٣٧].

إن تصدق الله يَصدُقُك:

جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه، فقال: أُهاجر معك، فأوصي به النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة، فلما كانت غزوة (خيبر) غَنِم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقسَم، وقسَم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: «قَسَمْتُه لك»

قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرْمي إلى ههنا- وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة.

فقال: «إن تصدق الله يصدقك»، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهو هو»؟

قالوا: نعم، قال: «صدق الله فَصَدَقه»، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جُبَّة، ثم قَدَّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقُتل شهيداً وأنا شهيد على ذلك» (٣)

أرأيت- أخي- ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «إن تصدق الله يصدقك» نعم، فهذا هو مفتاح الوصول إلى المعالي: صدق الإرادة والعزيمة، ولقد كان الرجل بالفعل صادقاً فيما طلبه، فحرك الله عز وجل الأحداث في اتجاه تحقيق مقصده ليس بالموت شهيداً فقط، ولكن بأن يموت بالطريقة التي عزم عليها وتاقت لها نفسه {فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: ٢١].

[أصدق الله فيه]

وتنقل لنا كتب السيرة في قصة إسلام أسيد بن حضير، أن أسيداً دخل غاضباً يحمل حربته، ويريد شراً بمصعب بن عمير، وعندما رآه أسعد بن زرارة على هذه الحال قال لمصعب: ويحك يا مصعب، هذا سيد قومه، وأرجحهم عقلا: أسيد بن حضير، فإن يُسلم يتبعه في إسلامه خلق كثير، فاصدق الله فيه. فلما صدق (مصعب) الله في (أسيد): فتح الله قلب أسيد، وانشرح صدره، وانفرجت أساريره، ودخل في الإسلام (٤).


(١) استنشاق نسيم الأنس لابن رجب ص ١٢٧ - مكتبة الخاني- الرياض.
(٢) السلسلة الصحيحة (٢٨٢٢).
(٣) أخرجه النسائي (١٩٥٢) باب الجنائز.
(٤) السيرة النبوية لابن هشام ٢/ ٢٧٤، ٢٧٥.

<<  <   >  >>