للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لنفكر سويا في الأمر: الاستقامة تستلزم معرفة بها، ودوام تذَكُر لها، وقوة دافعة تدفعنا للزومها، وحالة انتباه تجعلنا نداوم عليها، فإن التفتنا يمنة أو يسرة وجدنا من يعيدنا إليها.

فما هي الوسيلة التي يمكنها أن تفعل ذلك؟!

لنبحث في كل ما نعرفه.

هل هي الصوم؟!

الصوم مع أهميته الكبيرة في ترويض النفس إلا أنه لا يفعل كل ما نريده، ولا يستطيع أحد أن يصوم أبد الدهر.

هل الذكر .. التسبيح .. التهليل .. الاستغفار .. ؟!

نعم، الذكر له ثواب عظيم، وفوائد جمة لكنه لا يمكنه القيام بكل الأدوار التي نريدها من تذكير، وتعريف، وتوليد للطاقة والقوة الدافعة.

فماذا إذن؟!

[عودة إلى جيل الصحابة]

لنعد مرة أخرى إلى جيل الصحابة، ونبحث عن الشيء الذي جعلهم في الحالة التي نتمنى أن نكون عليها أو قريبًا منها لعلنا نجد فيه بغيتنا.

[بماذا فتحت المدينة؟!]

ذكرنا- بفضل الله- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد مستويات إيمانية رائعة من الأنصار، فما الذي أوصلهم لذلك خاصة أن كثيرًا من العبادات لم تكن قد فُرضت عليهم, كالصوم مثلا؟!

كل ما في الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلى المدينة- قبل هجرته إليها- مصعب بن عمير رضي الله عنه، وكان معه قدر من القرآن، فكان يدعوهم إلى الإسلام، ويتلو عليهم القرآن، فانشرحت له القلوب، ودخلها النور {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: ٢٢].

كان مصعب رضي الله عنه يطوف من بيت إلى بيت يتلو عليهم آيات القرآن، فأسلمت المدينة، ولم يبق دار من دورها إلا وقد دخله الإسلام.

إذن فالقرآن هو السبب الرئيسي لوصول الأنصار إلى هذا المستوى العالي من الإيمان، بل إن العلماء يقولون: «إن المدينة قد فُتحت بالقرآن».

وليس هذا الأمر يتعلق بالأنصار فحسب، بل إنه يشمل جميع الصحابة.

تأمل معي ما أجاب به علي بن أبي طالب رضي الله عنه على مَن سأله من التابعين هل خصّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، فنفى ذلك، وبين السبب الذي من خلاله وصل الصحابة إلى هذا المستوى فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه.

وتأمل كذلك جواب أم أيمن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عدما ذهبا لزيارتها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. (١)

[توجيهات المربي العظيم]

ومما يؤكد هذا المعنى ما نُقل إلينا من التوجيهات التي كان صلى الله عليه وسلم يوجهها إلى الصحابة بضرورة الانشغال بالقرآن، وعدم الانشغال بغيره.

أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر برجل يقرأ كتابًا، فاستمعه ساعة، فاستحسنه، فقال للرجل: أكتب لي من هذا الكتاب، فقال: نعم، فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأه عليه، وجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلون، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب، وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقرأ هذا الكتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إنما بعُثت فاتحًا وخاتمًا، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه، واختصر لي الحديث اختصارًا فلا يهلكنكم المتهوكون» (٢)


(١) رواه مسلم في فضائل الصحابة.
(٢) الدر المنثور للسيوطي ٥/ ٢٨٤، والمتهوكون أي المتحيرون.

<<  <   >  >>