للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا يؤكد مكانة الإنسان الخاصة عند الله عز وجل، وتزداد هذه المكانة كلما كان الإنسان أطوع لله عز وجل, قال صلى الله عليه وسلم: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق» (١).

[يكره سبحانه مساءة عبده المؤمن]

تأمل معي أخي القارئ قول الله عز وجل في الحديث القدسي:

«وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه» (٢).

يعلق ابن تيمية على ذلك فيقول: فبيَّن سبحانه أنه يتردد (عن قبض نفس عبده المؤمن) لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحبه عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال (وأنا أكره مساءته) وهو سبحانه قد قضى بالموت، فهو يريد له أن يموت، فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك (٣).

[فرحه - سبحانه - بتوبة العاصين]

أرأيت لو أن ابنًا قد شرد بعيدًا عن أبيه، وسار في طريق الفساد، ثم عاد إلى رشده وارتمى في حضن أبيه, أي فرحة يكون عليها الأب في هذا الوقت؟!

هذه الفرحة لا تساوي شيئًا بجوار فرحته سبحانه بتوبة عبد من عباده مهما أسرف في ذنبه ولجَّ في طغيانه.

تأمل معي الحديث الذي يؤكد فيه صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله:

«والله، لله أشد فرحًا بتوبة عبده من رجل كان في سفر، في فلاة من الأرض فأوى إلى ظل شجرة فنام تحتها، واستيقظ فلم يجد راحلته، فأتى شرفًا فصعد عليه، فلم ير شيئًا، ثم أتى آخر، فأشرف فلم ير شيئًا، فقال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأكون فيه حتى أموت، فذهب، فإذا براحلته تجر خطامها، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته» (٤).

[مراده أن تدخل الجنة]

عندما يقرأ المرء الأخبار السابقة، وبخاصة ما يتعلق بفرح الله عز وجل العظيم بتوبة عبد من عباده فمن المتوقع أن تقفز إلى الذهن بعض التساؤلات عن أسباب هذا الفرح فالله عز وجل لا تنفعه هذه التوبة بشيء، فهو الغنى الحميد, فلماذا هذه الفرحة إذن؟

من السهل علينا أن ندرك سر هذا الفرح عندما نتذكر أن الله عز وجل اختص الإنسان لنفسه دون خلقه جميعًا، وأنه يريد منه أن ينجح في امتحان العبودية ليُدخله الجنة, فمراده سبحانه من جميع البشر دخول جنته {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: ٢٢١].

مراده أن يعود الجميع إليه ليكرمهم وينعمهم في دار أعدها خصيصًا لهم، وجعل لكل منهم فيها جزءًا مقسومًا، وهو سبحانه يريد لكل منهم أن ينال نصيبه في تلك الدار، ويتبوأ منزله فيها {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [يونس: ٢٥] وفي نفس الوقت فهو لا يريد أن يُدخل أحدًا من عباده النار {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ

الْكُفْرَ} [الزمر: ٧].

هذا الأمر ينطبق على جميع البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل العصور والأزمان .. عباد الصليب .. عباد البقر .. الملحدين والوثنيين .. كل هؤلاء يريد الله منهم أن يدخلوا الجنة، ويكفيك في هذا أنه سبحانه وتعالى يمهل هؤلاء وغيرهم من الكافرين، ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة, مع قدرته المطلقة عليهم وإحاطته التامة بهم، فلو شاء أن يهلكم لأي ذنب يفعلونه لأهلكهم، لكنه لا يفعل، بل يحلم ويصبر ويمهل لعلهم ينتبهون من غفلتهم.

معنى ذلك أنه ما من واحد يدخل النار إلا لأنه يأبى ويصر على ألا يدخل الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّة إلاَّ مَنْ أَبَى» (٥).


(١) صحيح الجامع (٥٠٧٧).
(٢) رواه البخاري (٦٥٠٢).
(٣) التحفة العراقية/ ٤٣.
(٤) رواه مسلم.
(٥) صحيح البخاري ج (٦٧٣٧).

<<  <   >  >>