للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك ما حدث مع بني إسرائيل، فبعد أن ارتكبوا كبائر الذنوب، وعبدوا العجل، وقالوا لنبيهم: أرنا الله جهرة و .. أراد الله أن يتوب عليهم فدلهم على وسيلة ذلك والألفاظ التي يقولونها {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: ٥٨].

فأي رب غفور رحيم هو ربنا!

يعلمنا كلمات نقولها، وأدعية ندعوه بها تحمل معان عظيمة، ثم يخبرنا بأننا لو قلناها بصدق غفر لنا ذنوبنا وأعطانا مرادنا.

ومن ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٨٦].

هذه الكلمات النورانية لو أردنا نُعبَّر عما تحمله من معان بكلمات من عندنا فكم عبارة سنقولها؟ وهل سترقى تلك العبارات فتليق ببلاغة الآيات؟!

ثم إن هذه الآيات وغيرها من الأدعية مما ورد على لسان المؤمنين, من الذي أنزلها؟!

أليس هو الله عز وجل؟!

ومن هم هؤلاء المؤمنين الذي يقولونها؟!

إنهم ليسوا أشخاصًا بعينهم، ولكنها نموذج يقدمه الله لنا لكي يختصر علينا طريق اختيار الكلمات والعبارات التي تنال رضاه، وتستفتح باب فضله وكرمه، فيجيب علينا - حين نرددها - بفتح خزائن عفوه وفضله ورزقه.

وقد ورد أن العبد حين يقرأ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} يجيب سبحانه: «قد فعلت»، فإذا قال: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} يجيب الله: «قد فعلت» وهكذا (١).

فانظر إلى مدى حب الله لنا, يعلمنا ما نقول، ليجيبنا بعد القول: قد فعلت!.

[عدم الاستقصاء]

أرأيت لو أن زميلا لك قد أساء إليك إساءات بالغة، وارتكب في حقك مخالفات جسيمة، ثم جاءك بعد أن أفسد وأفسد ليعتذر لك عما فعله, أليس أدنى ما يتوقع منك ساعتها أن تجلس معه وتعاتبه، وتطلب منه إصلاح ما أفسده قبل قبول اعتذاره، وأن تأخذ منه المواثيق على ذلك؟!

ولكن الله عز وجل لا يفعل معنا ذلك، فهو يقبل منا الاعتذار - مهما كان حجم جرائمنا في حقه - دون استقصاء، كما حدث مع موسى - عليه السلام - فبعد أن قتل القبطي، وقبيل هروبه من مصر قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} فبماذا أجاب الله؟ {فَغَفَرَ لَهُ} لماذا المغفرة بكل هذه السهولة {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: ١٦].

لا يطالب أحدًا بإصلاح ما أفسده إلا إذا كان في حقوق الناس - رحمة بهم - أما ما كان في حقه سبحانه، فهو يتجاوز عنه .. لماذا؟!

لأنه لا يريد أن يضع أي عقبات أمام طريق التوبة.

يريد أن يجعل الطريق سهلا ميسرًا للجميع دون استثناء.

يكفي أن يندم المرء على ما فعل، ويستغفر الله بصدق ويتوب إليه.

يكفي ذلك، فليس المطلوب منه تقديم كشف بالمخالفات التي ارتكبها، وكيف سيصلحها .. تأمل معي قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ} ما الذي سيحدث إن فعل ذلك؟ {يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: ١١٠]. لا يجده منتقمًا ولا يجده جبارًا. بل يجده فرحًا بتوبته، لأنه يحبه، وينتظر منه هذه التوبة {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: ٢٢٢].


(١) انظر صحيح مسلم (١٢٦).

<<  <   >  >>