للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقام العبد العاصي، فنظر ذات اليمين وذات الشمال، فلم ير أحدًا خرج، فعلم أنه المطلوب، فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افُتضحت على رءوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منُعوا لأجلي، فأدخل رأسه في ثيابه نادمًا على فعاله، وقال: إلهي وسيدي, عصيتك أربعين سنة وأمهلتني وقد أتيتك طائعًا فاقبلني، فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القِرَب، فقال موسى: إلهي وسيدي, بماذا سُقينا وما خرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال: يا موسى, سقيتكم بالذي به منعتكم.

فقال موسى: إلهيّ أرني هذا العبد الطائع. فقال: يا موسى إنّي لم أفضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني؟! (١).

تاسعًا: خطابه الودود

الذي يخاطبك به

الله عز وجل يملك كل شيء في هذه الأرض التي نسكنها، والسماء التي تراها أعيننا {للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: ١٢٠].

وكل المخلوقات التي نراها من جبال وأنهار وبحار وأشجار ورمال وأحجار ودواب و ...

كل هذا خاضع لله عز وجل {وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ} [الرعد: ١٥].

وخضوع الكون كله لله عز وجل خضوع سرمدي يغلّفه الحمد لإتاحته سبحانه الفرصة للوجود من العدم، واستمرار بقائه وحفظه، ويغلِّفه كذلك الإجلال لعظمته، والرهبة من جبروته وسلطانه {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: ١٣].

ومن مظاهر الإجلال والرهبة والخضوع لله عز وجل عبودية الملائكة له سبحانه، فهناك بعضهم في حالة من الركوع منذ أن خلقه الله عز وجل، ومنهم من هو في حالة السجود له سبحانه منذ أن خلقهم {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ - يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: ١٩، ٢٠].

يقول صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة في السماء قيامًا إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافته، ما منهم ملك تقطر من عينيه دمعة إلا وقعت على ملك يسبح، ولله ملائكة سجدوا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفًا لم يتفرقوا عن مقامهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم عز وجل، فينظرون إليه تبارك وتعالى، فقالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك» (٢).

[من أنت؟]

هذا الإله العظيم بعظمته وجبروته, بجلاله وكماله, بعزه وسلطانه كيف يخاطبك أنت؟! ومن أنت؟! أنت ذرة يسيرة في ملكه لا تساوي شيئًا بجوار جبل من الجبال أو بحر من البحار، بل إن الأرض كلها بمن عليها بالنسبة لمملكته لا تساوي مقدار حبة رمل من صحراء شاسعة لا حدود لها.

وبالإضافة إلى ذلك فلا تنس أن ربك هو الذي أوجدك من العدم، فقبل شهور من ولادتك لم تكن شيئًا مذكورًا.

وتذكر أن حياتك كلها متوقفة على إمداداته، ولو توقفت تلك الإمدادات لانتهت حياتك.

ما المتوقع أن يكون خطاب العزيز للذليل، والغني للفقير، والقوي للضعيف، والعظيم للحقير، والكبير للصغير، والمعطي للآخذ، والقادر للعاجز.

أليس من المتوقع أن يكون الخطاب الموجه إلينا يتناسب مع صفاته سبحانه وصفاتنا؟

أليس من المتوقع من إله عظيم له هذا الملك والجلال والكمال أن يكون خطابه عبارة عن تعريف بمهمتنا مع بيان بالأوامر المطلوبة منا وكفى؟!

ولكنه ليس كذلك.

إنه خطاب عجيب يقطر ودا وحبًا.


(١) كتاب التوابين لابن قدامة المقدسي ٦٩، ٧٠.
(٢) رواه البيهقي في السنن والخطيب وابن عساكر، انظر كنز العمال (٢٩٨٣٦).

<<  <   >  >>