للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان صلى الله عليه وسلم يعيش بكيانه كله في هذه الحقيقة .. انظر إليه وهو يقول لأصحابه: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوِّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» (١).

وكان يقول: «إنما أنا مبلغ والله يهدي، وإنما أنا قاسم، والله يُعطي» (٢).

وعندما مات ابن لزينب ابنته قال: «قولوا لها: لله ما أخذ ولله ما أعطى ... » (٣).

ولقد كان الصحابة كذلك يعيشون في ظلال هذه الحقيقة، فهذا عبد الله بن عتيك بعد أن قتل أبا رافع اليهودي في حصن خيبر يعود مسرعًا إلى أصحابه يُبشرهم بقتله ويستحثهم على سرعة مغادرة المكان، ومع هذا الوضع المتوتر إلا أنه لم ينس تلك الحقيقة فقال لهم: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع (٤).

وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي يقُصّ على من حوله قصة إسلامه فيقول: وأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله (٥) ..

وهذا سعد بن أبي وقاص يُرسل رسالة إلى عمر بن الخطاب يُبشره فيها بنصر القادسية فيقول فيها: ولقد استشهد «الله» فلانًا وفلانًا (٦).

[مع المنع والعطاء]

ومع انعكاس النمو الإيماني على وضوح الرؤية لآيات الله المختلفة، فإنه أيضًا ينعكس على طريقة استقبال العبد لها، وتعامله معها، فتجده يربط النعم التي تَرِد عليه بالله المنعم، ويفرح بفضله - سبحانه - ويستكثر على نفسه هذا الفضل، ومن ثَمَّ تهيج مشاعر الامتنان لله عز وجل في قلبه ليعيش حالة القلب الشاكر.

وفي أوقات المحن والبلايا تجده - وإن تضايق قليلًا في البداية - إلَّا أنه سرعان ما يعود به إيمانه إلى الصبر وعدم الجزع أو التَسخُّط، بل ومن المتوقع - مع استمرار النمو الإيماني - أن يعيش المرء في حالة الرضا عن الله، فيسكن قلبه مهما تقلَّبت به الأحداث.

وباستمرار النمو الإيماني يزداد فهم العبد لأحداث الحياة وتقلباتها وبخاصة المؤلمة منها لتتحول كلها في نظره إلى عطاء من الله عز وجل {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: ٥١].

ومما يلزم التنويه إليه أنه مهما ارتقى الإيمان في قلب العبد إلا أن بشريته - وما فيها من ضعف - لن تُفارقه، لذلك فمن المتوقع أن تَزِلّ الأقدام في بعض الأمور القليلة والنادرة، لكن داعي الإيمان سُرعان ما يدفع صاحبه للعودة السريعة والتوبة النصوح، واستئناف السير إلى الله {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: ٢٠١].


(١) متفق عليه: أخرجه البخاري (١/ ٣٥٣، برقم ٩٩٣)، ومسلم (٣/ ٣٥، برقم ٢١٥٣).
(٢) حديث صحيح: أخرجه أحمد (٢٨/ ١٣٣، برقم ١٦٩٣٦)، و الطبراني في المعجم الكبير (١٩/ ٣٨٩، رقم ٩١٤)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (١٦٢٨).
(٣) جزء من حديث أخرجه البخاري (٦/ ٢٤٣٥، برقم ٦٢٢٨).
(٤) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ج ٤/ ص ١٤٨٤ حديث رقم: ٣٨١٣، انظر السيرة النبوية لعلي الصلَّابي ٢/ ٤١٨.
(٥) معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني- (١١/ ١٧٥، برقم ٣٥٠٠)، السيرة النبوية لابن هشام (٢/ ٢٢٦).
(٦) البداية والنهاية لابن كثير

<<  <   >  >>