للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لو كانت العبرة بالعدد والكم، لكان الثاني أفضل، لأن ما أخرجه أكثر بكثير من الأول، ولكن لأن العبرة بحركة المشاعر، وحضور القلب مع العمل كان الأول هو الأفضل عند الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف درهم: رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها» (١)، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: ١٠].

فالذي أنفق قبل الفتح - في أوقات الضيق والحصار والمستقبل المجهول وقلة الموارد - أعظم درجة من الذي أنفق بعد الفتح في أوقات الرخاء والأمان والسعة، فحركة المشاعر مع الإنفاق قبل الفتح أشد منها بعد الفتح.

ونفس الأمر ينطبق على الصلاة وقراءة القرآن وغيرهما من الأعمال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: ٣٧].

وفي هذا المعنى يقول ابن رجب: كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل بكثير من الغفلة وعدم الاتقان.

قال بعض السلف: إن الرجلين ليقومان في الصف، وما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض (٢).

[ابن القيم يؤكد]

ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول:

العمل اليسير الموافق لمرضاة الرب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلى الله تعالى من العمل الكثير إذا خلا عن ذلك أو عن بعضه، ولهذا قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: ٢]، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: ٧].

فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض، والموت والحياة، وزيَّن الأرض بما عليها، ليبلو عباده أيهم أحسن عملًا، لا أكثر عملًا.

والأحسن: هو الأخلص والأصوب، وهو الموافق لمرضاته ومحبته، دون الأكثر الخالي من ذلك، فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُتعبد له بالأرضَى له، وإن كان قليلًا، دون الأكثر الذي لا يُرضيه، والأكثر الذي غيره أرضى له منه.

ولهذا يكون العملان في الصورة واحدًا، وبينهما في الفضل - بل بين قليل أحدهما وكثير الآخر - أعظم مما بين السماء والأرض.

وهذا الفضل يكون بحسب رضا الرب سبحانه بالعمل، وقبوله له، ومحبته له، وفرحه به سبحانه وتعالى، كما يفرح بتوبة التائب أعظم فرح، ولا ريب أن تلك التوبة الصادقة أفضل وأحب إلى الله تعالى من أعمال كثيرة من التطوعات وإن زادت في الكثرة عن التوبة.

ولهذا كان القبول يختلف ويتفاوت بحسب رضا الرب سبحانه وتعالى بالعمل، فقبول يُوجِب رضا الله سبحانه وتعالى بالعمل، ومباهاة الملائكة به، وتقريب عبده منه، وقبول يترتب عليه كثرة الثواب والعطاء فقط.

كمن تصدق بألف دينار من جملة ماله - مثلًا - بحيث لا يكترث بها .. ، وآخر عنده رغيف واحد هو قوته، لا يملك غيره، فآثر به على نفسه من هو أحوج إليه منه، محبة لله، وتقربًا إليه وتوددًا، ورغبة في مرضاته، وإيثارًا على نفسه.

فيالله كم بعد ما بين الصدقتين في الفضل ومحبة الله وقبوله ورضاه!!


(١) حديث حسن: أخرجه النسائي (٥/ ٥٩، رقم ٢٥٢٧)، وابن حبان (٨/ ١٣٥، رقم ٣٣٤٧)، والحاكم (١/ ٥٧٦، رقم ١٥١٩)، والبيهقي (٤/ ١٨١، رقم ٧٥٦٨)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم: ٣٦٠٦.
(٢) مجموع رسائل ابن رجب ١/ ٣٥٢.

<<  <   >  >>