للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولأن العبرة بحال القلب قبل وأثناء العمل، فإن المتأمل لتوجيهات الشرع يجد أنها تحُثُّنا على تهيئة الأجواء المناسبة لاستجاشة المشاعر وحضور القلب قبل العمل.

فعلى سبيل المثال: الصلاة:

نجد أن الشرع يحثنا على تفريغ الذهن من الشواغل، وعدم تعلق القلب بشيء من شأنه أن يمنعنا من التركيز فيها، فإذا حضر الطعام مع دخول وقت الصلاة يُفضَّل البدء بالطعام حتى يدخل المرء إلى الصلاة وذهنه غير مشغول به.

وكذلك عند مدافعة الأخبثين .. قال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (١).

ولا ينبغي للمرء أن يُسرع في خطواته إلى المسجد ليدرك الصلاة، بل عليه أن يمشي في سكينة وهدوء، فالإسراع من شأنه أن يجعله يدخل إلى الصلاة وهو مضطرب فيصعُب عليه جمع قلبه.

قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (٢).

والحث على التبكير في الذهاب إلى المسجد قبل إقامة الصلاة له وظيفة مهمة في صرف شواغل الدنيا عن الذهن.

وكذلك فإن الحث على تذكُّر الموت قبل الصلاة من شأنه أن يستجيش المشاعر نحو الرجاء والطمع في عفو الله، والخوف والرهبة من عقوبته، فيزداد الحضور القلبي والخشوع فيها.

قال صلى الله عليه وسلم: «اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحَرِي أن يُحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها .. » (٣).

[الإيمان ما وقر في القلب]

كان (عمرو) يسير في الطريق فرأى أمامه حادث سيارة، وشاهد دماء المصابين متناثرة على الطريق، والكل يتسابق لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه فتأثر تأثرًا بالغًا، وذهب إلى عمله وهو واجم، مذهول، فلا حديث مع الزملاء كسابق عهده، ولا ضحك، ولا غيبة، أو سخرية من الآخرين .. وظل طيلة يومه على هذا الحال، وبعد بضعة أيام بدأ يعود تدريجيًّا إلى سيرته الأولى.

فما الذي حدث حتى يتغير هذا التغيير، وما الذي حدث حتى يعود ثانية لسابق حاله؟!

الذي حدث أنه عندما شاهد ما شاهده في الطريق تأثر بما رآه، وطَفَتْ حقيقة الموت وإمكانية وقوعه في أي وقت على ساحة فكره، واستثيرت معها مشاعر الرهبة والخشية، فانتعش داخله الإيمان بحتمية الموت، فأثمر هذا الإيمان: يقظة جعلته ينتبه لأحواله، ويُفكر في أموره، ويُدقق في كلامه وأفعاله .. وشيئًا فشيئًا ذهبت تلك الحالة، وهدأت المشاعر، فعاد مرة ثانية إلى غفلته، ليُمارس حياته كما كان يُمارسها من قبل.

ويتكرر الأمر مع آخَر سمع خطبة حارَّة تحُث على الإنفاق في سبيل الله، أو شاهد مناظر مؤثرة في التلفاز تُبيِّن حال الُمشَرَّدين والبائسين والمنكوبين في بلدان المسلمين، فإذا به يُبادر بإخراج جزء من ماله في سبيل الله، بل ويدعو مَن حوله من أهله وجيرانه لذلك، وبعد بضعة أيام يعود إلى سابق عهده، وتفتُر همته عن الإنفاق وعن دعوة الناس إليه.

وسبب ذلك أنه قد حدث استثارة واستجاشة قوية ومؤثرة للمشاعر أثمرت هذا الإنفاق، وبعد ذلك هدأت المشاعر فتوقف الإنفاق.

فإن قلت: وما الحل لكي نستمر في اليقظة والقيام بالأعمال الصالحة بدوافع إيمانية؟

الحل يكمُن في القيام بالتربية الإيمانية الصحيحة التي تجعل القلب في حالة دائمة من اليقظة.


(١) أخرجه مسلم (٢/ ٧٨ برقم ٥٦٠).
(٢) متفق عليه: البخاري (١/ ٢٢٨، رقم ٦٠٩)، ومسلم (١/ ٤٢١، رقم ٦٠٣).
(٣) حديث حسن: أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (١/ ٤٣١، رقم ١٧٥٥)، وحسنه الحافظ ابن حجر في زهر الفردوس، وكذلك حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (٣/ ٤٠٨ برقم ١٤٢١).

<<  <   >  >>