للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا، وإن في تنوع سور القرآن طولًا وقصرًا، انسجامًا مع هذه النفس الإنسانية التي تل الرتابة، كل سورة من سور القرآن تُضيف لبنة نفسية إلى ذلك الكيان الإنساني، حتى تجده مع آخر سورة قد اكتمل بناؤه النفسي، وتكاملت مشاعره وأحاسيسه ..

من هنا نُدرك الحكمة من كثرة النصوص الواردة في حثِّ المسلم على الإقبال على هذا القرآن، وإشارة النصوص إلى ضرورة أن يكون لهذا الإنسان ورد يومي وزاد يتقوَّت به في يومه، وأهمية قراءة القرآن من أوله إلى آخره لأنها تُمكن المرء من استثارة كامل مشاعره التي تنطوي عليها نفسه) (١).

[القرآن وبناء الإيمان]

وإليك أخي القارئ بعض اللمحات اليسيرة عن طريقة القرآن الفريدة في بناء الإيمان:

القرآن الكريم يطرح جميع الحقائق التي ينبغي الإيمان بها طرحًا يُخاطب به العقل فيُقنعه بشتى أساليب الإقناع من خلال الحوار الذي يُشعر قارئ القرآن أنه أحد أطرافه، ويصل معه في النهاية إلى الإجابة المقنعة للقضية المثارة، وخلال هذا الحوار نجد هناك أسئلة تُطرح وأمثلة تُضرب وإجابات تُفحِم وتُدحِض أي شبهة.

فعلى سبيل المثال:

شبهة أن القرآن ليس من عند الله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد افتراه من عنده، نجد الرد على هذه الشبهة في أكثر من موضع في القرآن بكلام مُفحم وأدلة دامغة كقوله تعالى في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣) فَإِنْ لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: ١٣، ١٤].

ومع الإقناع العقلي فإن القرآن يستثير المشاعر في نفس الوقت من خلال أساليبه المتنوعة من تشويق وترغيب وترهيب، ومن خلال القصة والموعظة، فعلى سبيل المثال: سورة النبأ تناقش قضية البعث والجزاء، وتُثبتها من الناحية العقلية، من خلال حثّ القارئ على الإجابة على أسئلة بدهية مفادها أن الذي جعل لك النوم سُباتًا، والنهار معاشًا، وأنزل المطر، وبسط الأرض، وثبَّتها بالجبال، و .. ، هو الذي يُخبرك أن هناك يومًا للجزاء ..

ومع هذا الإقناع العقلي يأتي الترهيب بذكر هول يوم القيامة وبشاعة النار، وكذلك ذكر الجنة، وبعض ما فيها من ألوان النعيم، فتُستثار المشاعر مع تلك القناعة العقلية فينشأ الإيمان بإذن الله.

وليس ذلك فحسب ... فمن أهم الوسائل التي يتفرد بها القرآن لاستثارة المشاعر هي الطريقة التي ينبغي أن يُتلى بها؛ ألا وهي الترتيل والتغني به طبقًا لأحكام التجويد {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: ٤].

[أهمية الترتيل]

إن تحسين الصوت بالقرآن وترتيله له وظيفة عظيمة في الطرق على المشاعر لاستثارتها، فيؤدي ذلك إلى امتزاج القناعة العقلية بالعواطف المنفعلة، لذلك كان الحث على تحسين الصوت عند قراءة القرآن.

قال صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» (٢).

وقال: «ليس منَّا من لم يتغن بالقرآن» (٣).


(١) التعبير القرآني والدلالة النفسية للجيوسي ص (٢٢٤ - ٢٢٦) باختصار، دار الغوثاني - دمشق.
(٢) حديث صحيح: أخرجه أحمد (٤/ ٢٨٣، رقم ١٨٥١٧)، وأبو داود (٢/ ٧٤، رقم ١٤٦٨)، والنسائي (٢/ ١٧٩، رقم ١٠١٥)، وابن ماجه (١/ ٤٢٦، رقم ١٣٤٢) وغيرهم، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (٣٥٧٤ - ٣٥٧٥).
(٣) أخرجه البخاري (٦/ ٢٧٣٧، رقم ٧٠٨٩).

<<  <   >  >>