للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[لا بديل عن القرآن]

من هنا نقول بأننا إذا ما أردنا بناء القاعدة الإيمانية باتساعها في جميع مشاعر القلب فلابد من العودة الصحيحة إلى القرآن، وإعطائه وقتًا معتبرًا من يومنا، وأن نُداوم على ذلك كل يوم .. نقرؤه بتدبر وترتيل وصوت حزين، فإن لم نفعل ذلك فلا نلومن إلا أنفسنا عندما نُفاجأ بعد الموت بهذا الكنز الذي كان بين أيدينا، فهجرناه بمحض إرادتنا، وقد كان بإمكاننا من خلال حُسن التعامل معه أن نقترب أكثر وأكثر من الله عز وجل {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: ١٠٤].

[القرآن والسنة]

وغني عن البيان أن الحديث عن القرآن يشمل الحديث عن السنة بالتبعية، فكما يقول ابن رجب:

فأما السُنة فهي مفسرة للقرآن، ومُبيِّنة، وموضحة، فهي تابعة له، والمقصود الأعظم هو القرآن (١) ..

وليس أدل من أهمية التمسك بالسنة مع القرآن من قوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين، لن تضلُّوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرِدا على الحوض» (٢).

[ابتعاد الأمة عن الانتفاع الحقيقي بالقرآن]

ومما يدعو للأسف أن جيل الصحابة لم يتكرر مرة ثانية في تاريخ الأمة حتى الآن، ومن أهم الأسباب لذلك هو هجر الانتفاع بالقرآن كمصدر متفرد لتحصيل العلم والإيمان.

إن مشكلتنا الرئيسة مع القرآن والتي تمنعنا من الانتفاع الحقيقي به هي ضعف إيماننا به، وثقتنا فيه كمصدر متفرد لتحصيل العلم والإيمان، ومن ثَمَّ التغيير .. ولك - أخي القارئ - أن تتأكد من هذا التشخيص بإجراء اختبار لنفسك وللآخرين، بأن تتخيل بأنك يومًا ما رغبت في قراءة شيء من الرقائق والمواعظ لترقيق قلبك، فاتجهت إلى مكتبتك، ووقع بصرك على كتاب التوهم للمحاسبي، والتبصرة لابن الجوزي، ومدارج السالكين لابن القيم، وإحياء علوم الدين للغزالي، ووقع بصرك - فيما وقع - على المصحف، فأي الكتب ستختار؟! وما هو ترتيب القرآن في هذا الاختيار؟!

ستُفاجأ أخي - كما فوجئت - بأن القرآن هو آخر كتاب ستختاره لهذه المهمة .. هذا إن كنت ستضعه في دائرة الاختيار والتفضيل.

إنه أمر يدعو إلى الحسرة .. كتاب الله أعظم وسيلة للتأثير يُصبح مهجورًا بهذه الطريقة؟!

[يا حسرة على العباد]

هل انطفأ نور القرآن؟

لا والله، فهو كما هو النور المبين، وسيظل تأثيره أقوى من تأثير أي نور آخر، ولكننا أدرنا له ظهورنا، ولم نُحسن توجيه نوره لعقولنا وقلوبنا، فلم نشعر بأثره، فهل نقول لأنفسنا: «يا حسرة على العباد؟!»

يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: سيبلى (٣) القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت (٤)، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة (٥).

لقد صدق معاذ رضي الله عنه، فلقد ضعفت قيمة القرآن في قلوبنا، وأصبحنا لا نجد اشتهاء للإقبال عليه، ولا لذة حينما نتلو آياته.

لقد تضافرت عوامل كثيرة أدَّت إلى هذا الهجر الخطير للقرآن، ولكن حيث أنه لا بديل أمامنا سوى العودة إليه والانتفاع به لتحصيل العلم النافع لعقولنا، والإيمان المتجدد لقلوبنا، والتزكية الصحيحة لنفوسنا، والحركة الدائبة لخدمة ديننا، فلابد من بذل غاية الجهد، واجتياز كافة العقبات التي تحول بيننا وبينه ..


(١) الاستغناء بالقرآن في تحصيل العلم والإيمان لابن رجب.
(٢) حديث صحيح: أخرجه الحاكم (١/ ١٧٢، رقم ٣١٩)، والدارقطني (٤/ ٢٤٥)، وصححه الألباني.
(٣) بلى الثوب: من كثرة استعماله حتى صار قديمًا لا قيمة له.
(٤) التهافت: التساقط والتتابع.
(٥) أخرجه الدارمي في سننه (٢/ ٥٣١ برقم ٣٣٤٦).

<<  <   >  >>