للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقوله: «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة» (١).

[ثاني عشر: الصورة المؤثرة]

المشاهد التي تراها العين يصل مدلولها إلي العقل والقلب بصورة سريعة وتكون أشد تأثيرًا على المشاعر مما يُنقل عن طريق السمع .. انظر إلى موسى - عليه السلام - وقد تأثر وغضب عندما أعلمه الله عز وجل بما فعله قومه من عبادة العجل، لكنه لم يلق الألواح التي في يديه، ولكن عندما ذهب لقومه ورآهم بعينيه اشتد غضبه واشتد، وألقى الألواح، وفي هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه فى العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت» (٢).

لذلك من الوسائل العظيمة للتحفيز: استخدام الصورة الحية، والمشاهدة المؤثرة التي تعلق في الذهن وتستثير المشاعر في اتجاه ما ترمي إليه الصورة ..

عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق والناس كنفتيه - أي: عن جانبيه - فمر بجدي أسك (٣) ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ ثم قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا، إنه أسك، فكيف وهو ميت! فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» (٤).

تخيل معي - أخي القارئ - مدى تأثير هذا المشهد على الحاضرين، وكيف ستكون علاقتهم بالدنيا بعد ذلك؟!

ولقد أصبح من السهل استخدام هذه الوسيلة في عصرنا هذا من خلال انتقاء المشاهد المرئية وعرضها على النفس وعلى الآخرين المراد توجيههم.

وإليك - أخي - مثالًا تطبيقيًا لاستخدام هذه الوسيلة في المحيط الدعوي:

كان على أحد الدعاة أن يقوم بإلقاء محاضرة عن الأخوة والحب في الله وأهميتهما الشديدة بالنسبة لأصحاب الدعوات، وقبل حلول موعد المحاضرة بدأ هذا الداعية في التفكير في محتوى المحاضرة، هل سيفعل مثلما فعل في المرات السابقة فيقوم بجمع الآيات والأحاديث الدالة على فضل الأخوة في الله وحقوقها وواجباتها مع مزجها ببعض القصص والنماذج المأثورة عن تاريخ السلف وماضي رجال الدعوة؟!

في هذه المرة لم يجد في نفسه أي رغبة في تكرار ما فعله سابقًا، وبخاصة أن المحاضرة ستلقى على أناس يعرفون هذا الكلام بل يحفظونه جيدًا، ورغم هذه المعرفة فإن العلاقات الأخوية بينهم ضعيفة يكسوها الجفاء والفتور.

ظل الداعية يفكر ويفكر، ويستعين بالله حتى هُدي إلي فكرة جديدة، فأسرَّها في نفسه ولم يُبدها لأحد، وقام بتجهيز ما يتطلبه لتنفيذها، وانطلق إلى المحاضرة.

جلس هذا الداعية في المكان المخصص له، وبدأ حديثه بالثناء على الله، والصلاة على رسول الله، ثم أخرج من جيبه (مسبحة) طويلة، وسأل الحاضرين عن اسمها، فأجابوه، وظل يحركها يمينًا ويسارًا أمام أعينهم طالبًا منهم تركيز أنظارهم إليها جيدًا.

وظل صامتًا للحظات، ثم أخرج من جيبه (مقصًّا)، وعند منتصف المسبحة قام بقص الخيط الذي يجمع حباتها، فانفرطت الحبات وتناثرت في أرجاء المكان وتحت أقدام الحاضرين، والجميع في ذهول من ذلك المنظر المثير.


(١) متفق عليه: أخرجه: البخاري (٥/ ٢١٠٤، رقم ٥٢١٤)، ومسلم (٤/ ٢٠٢٦، رقم ٢٦٢٨).
(٢) أخرجه أحمد (١/ ٢١٥، رقم ١٨٤٢)، والحاكم (٢/ ٣٥١، رقم ٣٢٥٠)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم ٥٣٧٤).
(٣) أسك: أي صغير الأذنين.
(٤) أخرجه مسلم (٤/ ٢٢٧٢، رقم٢٩٥٧).

<<  <   >  >>