للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهناك حادثة تحمل دلالتها المؤثرة يرويها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في كتابه المعروف (فقه السيرة): جندي إنجليزي من المستعمرين القدماء العائدين من كينيا في أفريقيا، يحكي لزميله في لندن، كيف أنه وهو يحاول أن يفرغ رصاصتين في رأس أحد الثوار الكينيين من حركة (الماو ماو)، حاول هذا أن يعضه من ذراعه دفاعا عن نفسه، تصور يا (جون) يقول الجندي الإنجليزي العائد، كيف أنه أراد إلحاق الأذى بي باستخدام أنيابه كالكلاب الشرسة. يضحك (جون) حتى يستلقي على قفاه وهو يردد: أيها الإفريقي الدنس أيها الأسود المقرف!! (١). وهنا لا يقتصر الأمر على ازدواجية عنصرية في معايير النظرة الغربية والأمريكية، عمومًا إلى الإنسان وقيمته وحقوقه وحرياته، ولكنه مسألة (حسابات سياسية باردة)، ترتبط بمنظور السياسة الغربية التي تفخر بواقعيتها القائمة على موازين تلك الحسابات، وتغليبها على الأخلاق والقيم.

فما يجرى حتى الآن في أفغانستان والعراق، وما يمكن أن يتبعه من أحداث، يرتبط أولاً وأخيرًا بمسيرة عولمة "الهيمنة الأمريكية" نفسها، وشمولها للجانب العسكري إلى جانب الميادين الاقتصادية، والمالية، والسياسية، والفكرية. وهنا لا تمثِّل التفجيرات في نيويورك وواشنطن ـ على ضخامتها ـ سوى عنصر من عناصر عديدة يجري توظيفها لخدمة الهدف الأوسع نطاقًا. فها هي ذي أمريكا تمضي قدما تحت اغراءات التفرد والقوة وضغوط الهياج الشعبي، بكل أبعاده الدينية والعنصرية لإنزال الويل والثبور بهذه الحلقة، أو تلك من عالم الإسلام، ومحاولة احتواء، وربما إرغام كل زعامات هذا العالم على الانخراط تحت ما تسميه (مقاومة الإرهاب)، وهو يقينا لا يتحدد بهذه البقعة الضيقة أو تلك، وإنما سيمضي بقوة المذهب والتاريخ والمصلحة، لكي يطال عالم الإسلام كله (٢).

فمع أواسط التسعينيات الميلادية، بدأت نقطة الثقل تتحوَّل في المواقف الكلامية العدائية من مصطلح (الأصولية) إلى كلمة (الإرهاب الدولي)، التي كانت ـ ولا تزال ـ مائعة فضفاضة، يمكن تفصيلها على مقاس الغرض السياسي المطلوب


(١) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ص٤٥ - دار الفكر بدمشق- ط١ ٢٠٠٣
(٢) مذكرات حول واقعة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ـ د. عماد الدين خليل ـ ص٣٧

<<  <  ج: ص:  >  >>