للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الديمقراطية الأمريكية قد جرى اغتيالها وإفراغ التراث الليبرالي من محتواه، وإبداله بنظام اوليجاركي (حكم القلة) أفرز نوعاً من ثقافة الكذب، التي تنبع من العلاقات المؤسسية الخفية التي تسيطر على صناعة الأخبار. وهكذا أصبح الإعلام الأمريكي، الذي شهد تنامياً في الطاقات والاستثمارات المالية الضخمة والتقدم التكنولوجي المتسارع، الأداة الرئيسة في إعادة تشكيل فكر ووجدان الشعوب المختلفة. وتحول الإعلام ـ حسب تعبير (نيل بوستمان) أستاذ علم الاتصال الأمريكي ـ من إثارة الفكر والنقاش إلى التسطيح، وتحولت المعلومة إلى سلعة ثم إلى أداة للترفيه وتغييب العقل، وأصبح الإعلام هو جهاز غسيل المخ في هذا الزمان، وهو صانع الأكاذيب والشائعات والأخبار الموجهة، وهو الملقن الذي يلقن الصحف ما تكتب لنا كل يوم (١).

ولما كانت عملية خداع الجماهير، وصناعة الإجماع أو الإذعان ضرورة لازمة لإعطاء الجماهير الجاهلة الوهم بأنها تمارس النفوذ الديمقراطي، كما يقول (وولتر ليبمان)، فقد أصبحت ملكية الإعلام والسيطرة علي أمورها أمراً لازماً للمحافظة علي مصالح الثروات الخاصة، والممارسات الاستمرارية لخداع الجماهير وتضليلها. ومثلما انحصرت رؤوس الأموال في أيدي القلة المتنفذة، فإن ملكية الصحف والوكالات الصحافية في القرن التاسع عشر إلي جانب صناعة الأفلام في هوليوود، ومن ثم التلفزيون والإذاعة في القرن العشرين، قد تمركزت كلها في أيدي القلة ذاتها. ومن البديهي أن الإعلام هو أمر حاسم للغاية في خلق حالة من الإجماع العام وتصنيع الرأي العام. وبإمكان المرء أن يستشعر وجود الكارتل الإعلامي، عندما يسافر ويتنقل بين أرجاء الولايات المتحدة. فهناك آلاف من المحطات الإذاعية وآلاف من القنوات التفلزيونية وآلاف من الصحف. ولكن في حقيقة الأمر، فإنك إذا سمعت خبراً من إحداها، فكأنك سمعته من كل هذه الوسائل الإعلامية، لأن كل مكوناتها محتكرة في أيدي بضع شركات، وهي تتقاسم القيم والمبادئ نفسها. فالجميع يقدمون الرسالة ذاتها بلا زيادة أو نقصان، وهذه الرسالة تصمم بالمقاس لتخدم أجندة بارونات الربا في كل أقطار العالم (٢).


(١) إسرائيل .. البداية والنهاية ـ د. مصطفى محمود ص٢٥
(٢) إمبراطورية الشر الجديدة ـ عبد الحي زلوم ـ القدس العربي ـ ٢٩/ ٢/٢٠٠٣م

<<  <  ج: ص:  >  >>