للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ففجأة رأت ذاكرة الزنابير صورتها في المرآة: الإمبراطور عارياً تطارده أشباح ١١٢ مليون آدم وحواء، ينتمون إلى أكثر من أربعمائة شعب كانوا يملأون (مجاهل) العالم الجديد بضحكة الحياة (لم يبق منهم في إحصاء ١٩٠٠ سوى ربع مليون) وتلوح لعينيه مشاهد ٩٣ حرباً جرثومية شاملة (١)، آتت على حياة الملايين من هذه الشعوب. هذه الإبادة الجماعية الأعظم والأطول في تاريخ الإنسانية والتي حاول التاريخ المنتصر محو ذكراها من وجه الأرض أيقظتها حالات (الجمرة الخبيثة) بكل أهوالها في مخيلة الزنابير، التي بدأت ترى مستقبلها في صورة ضحاياها، الذين أبيدوا بجراثيم الجدري في خليج مساشوستس أو بمبيد الأعشاب البرتقالي، وغاز الخردل، واليورانيوم المستنفد في كوريا وفيتنام، وما بين الرصافة والجسر (٢).

هكذا تأسست أمريكا بلد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهكذا كانت أخلاق روادها الأوائل ورعيلها الأول الذين لازال الأمريكيون وكثيرون في العالم، يتغنون بإنجازاتهم العظيمة .. !؟ وقد لاحظ (هوارد سيمبسون) في مقدمة كتابه الرائع عن دور الأمراض في التاريخ الأمريكي إن المستعمرين الإنكليز لم يجتاحوا أميركا "بفضل عبقريتهم العسكرية أو دافعهم الدينية، أو طموحاتهم، أو وحشيتهم، بل بسبب حربهم الجرثومية التي لم يعرف لها تاريخ الإنسانية مثيلاً (٣).

وحتى إعلان الاستقلال الأمريكي، الذي أقر مبادئ الحرية والمساواة، وصف الهنود بأنهم "متوحشون بغير رحمة وسيلتهم المعروفة هي شن الحرب وذبح الجميع". هكذا تكلموا عن السكان الأصليين حتى يبرروا مسبقاً المذابح ونهب الأراضي، واعتبار تلك الجرائم البشعة نوعاً من الدفاع الشرعي، كما لو كان الهنود غزوا أراضى المهاجرين، بينما هؤلاء الأوربيين كانوا ينهبون أراضى الهنود ويدمرون حياتهم بصفة مستمرة. ومنذ ذلك الحين، ومنذ تلك الخطيئة الأساسية وضع حجر الزاوية الأساسي للسياسة الأمريكية، حيث شهد (توكفيل) بربرية المستعمرين ضد الهنود الحمر، الذين يملكون أسلحة لا تتوازن مع أسلحة الغزاة، ووصف بسخرية


(١) الامبراطورية الأمريكية البداية .. والنهاية - منصور عبد الحكيم - ص ٣٠ - دار الكتاب العربي - ط١ ٢٠٠٥
(٢) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص١٦
(٣) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص٢٣

<<  <  ج: ص:  >  >>