للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الخرافات , أو كأن خرافات الجاهلية ملازمة للغتهم , لا تنفصل عنها , فورثناها معها. وكأني بنا قد خجلنا من وقوفنا عند الحد الذي وصلت إليه أجدادنا , فبعد أن كانت الكهانة على نحو ما ذكرناه في هذا الباب , جعلناها نحن علماً بل علوماً بأصولٍ ذات قواعد وروابط وشروط. وألَّفنا فيها الكتب العديدة , وأضعنا فيها الوقت الثمين , وزدنا عليها ضروباً وأنواعاً لم تكن معروفة في الجاهلية أصلاً فأفسدنا عقول الشعب بالأوهام والأكاذيب. وقد كان عدد الكهان في الجاهلية قليلاً بحيث لا يصيب العشر القبائل كاهن واحد , وأما الآن فلا شارع من شوارع مدننا إلاّ وفيه الرمَّال والحاسب والحازني , وباصر البخت , وضارب المندل , وكلُّ دّجال خدَّاع , يسلبون فقراء الناس أموالهم عاجلاً , ويعدونهم بالسعادة آجلاً. نعم إن الكهانة ممنوعة بأمر الحكومة في بلادنا , ومعاقب عليها في قوانيننا , ولكن أخلاق الشعب ورجال الضبط والربط بالجملة لم تزل على حالتها الأصلية؛ وربما تعجبوا من وجود مثل ذلك النصّ في قوانين الحكومة وأنكروا عليها معارضتها لأناس يعلمون الغيب ويخدمون الناس بإطلاعهم على أسرار المستقبل. ولذلك تراهم يغضون الطرف عنهم فلا يتعرضون لمنعهم. وقد رأيتُ مرَّةً أحد رجال البوليس انحراف عن قارعة الطريق قاصداً أحد الرَّمالين , فظننتُ أنهُ ذاهب لمنعه من نشر بضاعته في الشارع العمومي وإثبات مخالفته للقانون , ولم أكن أظنّ في أمثاله ذلك الترقي الأدبيّ. فأخذني العجب وأتبعتهُ بنظري؛ فإذا هو وقد جلسَ بين يدي الرمَّال , وأخذ يستطلع منهُ الغيب , ويسمع شقشقتهُ بغاية ما يكون من الجد والاحترام

اسكندر عمون

<<  <  ج: ص:  >  >>