للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبينما كان الشاعر ينظم هذه الأبيات الرقيقة إذ استوقفت قلمه ألحان محزنة تصدح بها موسيقي كانت سائرة في الطريق , فإذا هو بجنازة تسير خلف طبل وبوق. فسأل عنها فقيل إنها جنازة شابّ مات في العشرين من عمره. فأثر هذا الموكب الكئيب السائر على النغمات المفجعة في نفس الشاعر وهو لا يعرف ذلك الفتى المتوفي فقال: وهذا يأخذ حصته في الطريق وكتب فيه الأبيات التالية:

مشهدٌ سُيّرَ في طبلٍ وبوقِ ... عِظةٌ جُنَّتْ فغنَّتْ في الطريقِ

عِظَةُ الموتِ وما عهدي بها ... أن تزفَّ النعشَ في تدليلِ سوقِ

لا ولا عهدي بها خاطبةً ... عن ثغورٍ من نحاسٍ وحلوقِ

ويحُ تلكَ القِطَعِ الصفراءِ في ... صوِتها حِسُّ جراحٍ وحُروقِ

مَن تُرى علَّمها ما مَزَجت ... من وَجيفٍ وعويلٍ ونَعيقِ

ألقتِ الفجعْةَ , فاستولت على ... كلِّ سمعٍ , وأَجفَّتْ كلَّ ريقِ

تلك شكوىً عن فؤادٍ ثاكلٍ ... صاخبِ الآلامِ , رنّانِ الخُفوقِ

يا أباً يبكي ابنهُ ملتَمِساً ... ذلكَ التنبيهَ للحسِّ الصَّعيقِ

واضحٌ عذْرُكَ مَهما تفتنِنْ ... للعدوِّ الصُّلبِ والخدنِ الرفيقِ

آهِ مِن نارِ الجوى! فَهْيَ التي ... تفجرُ البُركانَ من قلبٍ رقيقِ

آه من صدْعِ النَّوى! فهو الذي ... يُرسِلُ الأحزانَ كالسَّيلِ الدفوقِ

أن تُذيبوا هكذا أكبادنا ... يا بَنينا , فالرَّدى أقسى العقوقِ

[هل للهموم قلوب]

ألقى الجمالُ عليكَ آيةَ سحرهِ ... فغدوتَ ما شاَء الجمالُ حبيبا

حتى الهمومُ سَمتْ إِليك بودِّها ... من كان يحسبُ للهموم قلوبا

[الزهرات الثلاثاء]

نظمت في وداع أحد القضاة

صبَّح الأزهار طيفٌ مَلَكيٌّ يبهرُ ... بالزهورِ

يا لها بكراً كحور الخلدِ هبَّتْ تخطرُ ... في البكورِ

قلَّدت جبهتَها في نَسقٍ زاهي البياضِ ... تاجَ عهنِ

وأعارَتْ ثوبها من خيرِ ألوانِ الرياضِ ... كلَّ حسنِ

أملٌ بادٍ وسعدٌ مستعيرٌ شخصَ نورِ ... للعيونِ

وبهاءٌ في حياءٍ مستعيرٌ شخصَ تورِ ... للعيونِ

نجم صبحٍ كلُّ آنٍ يجتلي فيهِ سناه ... فهو فجرُ

مَنءْ تكونين , حماكِ اللهُ يا هذي الفتاة؟ ... أنا مصرُ

دَرَتِ الأزهارُ ما جاَءتْ له تلك العروسْ ... من مرامِ

إِنَّ للأزهارِ أبصاراً تَرى سرَّ النفوسْ ... من لمامِ

فأحسّتْ ذاك منهنَّ وقالت قولَ فكرِ ... لا لسانْ

أفمنكنَّ ثلاثٌ يتقدمنَ لأجرِ ... يا حسانْ؟

قالت الوردةُ: ما للعدل مثلي من مثالِ ... فاجتليني

في بياضي واحمراري آيتا الحكم الحلالِ ... فاجتنيني

قالتِ الزنبقةُ الغراءُ: إِني رسمُ حسِّ ... للنزاهة

هي شكلي وقوامي ولها عفَّةُ نفسي ... والنباهة

قالتِ السوسنةُ البيضاءُ شفَّافاً سناها ... عن سماحه

أنا والرحمةُ كالمرآةِ والوجهِ اشتباها ... وصباحه

بعد ذاك اجتمعتْ تلك المجيباتُ الحسانُ ... للهديَّة

في نظامٍ أكسبتهنَّ بهِ تلك البنانُ ... صوغَ حليه

حليةٌ باليدِ زانتْكَ بها مصرُ الفتاة ... رسم حالِ

رسم أبهى ما بهِ يَحْلي على الدهرِ القضاة ... من خلالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>