للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إن الفكرة الحضارية (١) ليست فكرة استثنائية فريدة، أو قيمًا ومبادئ مجردة، وإنما هي: فكرة حية وعقيدة مفسِّرة للحياة، تتجسد في صفوة قوية أمينة، وتمتد في عمق الأمة، وتتحقق في نظام اجتماعي متكامل يفرضها مصدرًا للقيم، وقوة لإدارة الواقع، وطاقة معصِّبة تجمعها في وجه التحديات، وتحركها نحو هدف واحد ومصالح مشتركة، وتدخلها بذلك طور الفعالية التاريخية. ولن تستطيع الفكرة أن تتحول إلى قوة محركة ما لم تحقق جملة من الشروط:

- أن تكون فكرة وجودية تحمل تفسيرًا كليًا للحياة والعالم، ونسقًا متكاملاً من الغايات والوسائل والمواقف تستغرق تفاصيل الحياة كلها.

- الشمول والاستغراق، فعلى قدر شمول الفكرة واستغراقها للعناصر الضرورية في الحياة الإنسانية تمد سلطانها، وتَستنزِف الفكرةُ طاقتها سريعًا بقدر تخلّيها عن فئات من تلك العناصر أو إغفالها لها، لأنها بذلك تخلّ بالتوازن الشرطي، أو الولاء الرضائي، أو المصلحي، الذي ينبغي للفكرة أن تضمنه بين أطراف الثنائيات المتعاكسة (٢).


(١) نهتم هنا بالفكرة الحضارية حصرًا، ولكنما الكلام يصدق على كل فكرة محرِّكة لأي تجمع بشري؛ صغير أو كبير، وتتحدد خطورتها، وقوة أثرها، وسعة مداها، بمدى عمقها، ودرجة استقطابها، وما تستغرقه من شؤون الحياة.
(٢) ولعل التجربة السوفييتية من أبرز الأمثلة لأثر افتقار الفكرة المعصّبة إلى الشمول في تحلّل الأمة، إذ إن الفكرة الشيوعية التي قامت على أساسها الأمة السوفييتية راعت جانبًا واحدًا من المصالح الضرورية في الحياة الإنسانية، وهي مصلحة الفقراء، ولكن حلّ مشكلتي الفقر والعدالة جاء على أساس تطرّف إلى مصلحة الفقراء، وفرض لمساواة حرفية تضحي بمكتسبات التنوع، وتقضي على التنافس المحفّز على العمل، وتخلّ بالتوازن اللازم في الإمكانات .. وبالمجمل لم تحقّق الفكرة الشيوعية شرط الشمولية الذي يضمن المصالح الضرورية كلها، فأدى ذلك إلى "تضخّم" و"ضمور" نجم عنهما انحلال الأمة، وانهيار الدولة.

<<  <   >  >>