للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

هذا ما يخبرنا به فرويد (١)، وهو الحقيقة القوية التي تثبتها أخبار التاريخ. أما مجتمع الوفرة فهو، على العكس، يقدّم كل ما يعين على الإشباع النهم، وإطلاق الغرائز .. ويشوّه معالم الفطرة فتعتاد الذات ارتخاء الإرادة، وتتخامد طاقة الاندفاع، فتختلق الأعذار، وتتواكل على المعيقات والمثبّطات، وتتذرّع بها.

إن عهد الوفرة غاية للحضارة ومصير لها في آن (٢)، وهي الذروة التي تحقّق عندها آمالها، وتَستنفِد غاياتها، لتبدأ في شق طريقها إلى الانحدار! في مرحلة المدنية تعيش الحضارة ازدهارًا غير مسبوق يصل


(١) فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص٦٣.
(٢) يعترض حسين مؤنس على اعتبار الترف مفسدة أو سببًا من أسباب التدهور، "لأن الترف في ذاته ليس ضررًا أو مفسدة، بل مطلب إنساني عام .. "، مؤنس، حسين: الحضارة، ص٥٥. ولاعتراض مؤنس وجاهته، فغاية الحضارة - كما قلنا - أن تؤمّن الرفاهية لأبنائها، وكنا قد قلنا أيضًا إن كل فكرة تحمل نقيضها، فالترف حالة تكتنز خصائص سلبية وإيجابية، وتعامل الذات البشرية مع هذه الحالة هو الذي يدير هذه الخصائص، وعلى العموم فإن الوفرة تؤدي إلى الاستكانة والدعة والبلادة، وأغلب من نجح من الحكام، أو من غيرهم، في دور الوفرة هو من تعالى على إمكانات الترف، واختار هدفًا أسمى من لذّته، هو بقاء ملكه أو حماية شعبه، وتحقيق هدفه. ومن واجب الإنسان أن يسيطر على الأدوات، لا أن تسيطر عليه، وهو ما يسمى بسياسة "القبض"؛ أي القدرة على القبض على الأشياء ومعرفة كيفية استعمالها، كما يذكر حسين مؤنس نفسه في كتابه الحضارة، ص١٥٧. ويصف ديورانت إيطالية بأنها "كانت أكثر من غيرها فسادًا لأنها كانت أكثر ثراء، وأضعف حكمًا، وأقل خضوعًا لسلطان القانون، وإنها كانت أكثر رقيًا في ذلك التطور الذهني الذي يؤدي في العادة إلى التحلل من القيود الأخلاقية". ديورانت، ول: قصة الحضارة، ٢١/ ١٥٠.

<<  <   >  >>