للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه الصورة وهي: يبدأ أولاً بعرض فكره أو رأيه في معرض الارتياب أو الترجيح، ثم يكرره مراراً وعلى كل مرة يعيده يقرض شيئاً من الألفاظ، وينحى عنها بعض الأدوات التي تدل على الأرجحية؛ ثم لا يزال يفعل ذلك حتى لا تمر بضع صفحات إلا وقد تحول الأرجح يقيناً لا يشوبه أدنى ريب. وما كنا نود أن نرى هذا الخلل في حضرة كاتبنا الفاضل. إذ هذا لا يجدر بالمؤرخ، وبالأخص في الأمور التي فيها شأن خطير، كما هي مسئلة دولة حمورابي. فانك ترى الكاتب مثلا رجح في كتابه (العرب قبل الإسلام) (١: ٤٩) أنها عربية؛ وقد ذهب فيها إلى ما ذهب إليه جماعة من كبار المؤرخين والأثريين أي أنها كانت عربية الأصل ثم انتقل في كتابه هذا إلى أنها عربية اللسان، بل وعدها أول دولة عربية ظهرت في العصر القديم، لا بل جعلها في صدر دول الجاهلية الأولى. فلا جرم أن في ذلك تسرعاً

في الحكم وتهوراً في الرأي.

ثم أن طائفة من الباحثين ذهبوا إلى أن حمورابي، عربي النجار، كما أشرنا إليه، وأن دولته عربية المحتد بهذا المعنى: لكن بين أن يكون ملك قوم عربي المنبت؛ وبين أن تكون دولته، ولسان دولته عربية، وجميع رعيته وسوقته من العرب بون ظاهر. كيف لا ونحن نرى في هذا العهد ملوكاً ليسوا من اصل مملوكيهم؛ وهم مع ذلك يسوسون رعيتهم بدون أن تيجنس التابعون بجنسية متبوعهم. ألم نر ملكاً عربياً جلس على عرش رومة؛ ولم نر أيضاً ملوكا أجانب مختلفي العنصر حكموا على بلاد العرب؛ وعليه فلا نرى من المناسب أن تثبت دولة حمورابي بين الدول العربية وتدخل لغة ذلك العهد في تاريخ آداب اللغة العربية وليس هناك ما يمكن أن يبين أنها من هذه اللغة القرشية، التي وضع الكاتب كتابه من اجلها. فالأدلة التي أتى بها في كتاب (العرب قبل الإسلام) لا تقطع هذا الرأي قطعاً لأرد عليه، إذ لا يزال الحكم فيه من باب المجازفة.

وأما أنه صرح في الأخير أن تبعة حمورابي هم عرب بدون أن يستريب به، فظاهر من نص عبارته في ص ٤٧ وهذا هو: (ومما يحسن استطراده: إن اللغات السامية القديمة على كثرتها اختص منها بالأعراب لغة بابل (الآشورية) واللغة العربية، ويؤخذ ذلك من الأدلة على وحدة اصل العرب والحمورابيين

<<  <  ج: ص:  >  >>