للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عزم على ما لا يجوز (١)، وأن ذلك موجب للمؤاخذة! وهذا غلط ظاهر، فإنه لا شك أنه قد عزم على ما لا يجوز، لكن الذي لا يجوز هو ما عزم عليه، والنزغة الشيطانية، فإن الشرع قد جاءنا بأنها عفو مغفورة، ما لم يعمل أو يتكلم.

وهذا لم يعمل، ولا تكلم. وليس عزمه بعمل، ولا كلام باتفاق أهل اللغة والشرع، وهذا هو المعنى الذي فهمه السلف الصالح من هذه الأحاديث.

ورحم الله الأمام الشافعي، فإنه قال في "الأم" (٢) كل ما لم يحرك به لسانه فهو حديث النفس الموضوع عن بني آدم. انتهى.

ولم يصب من تأوله، كما لم يصب من تأول الأحاديث [٣ب].

فقد تبين بجميع ما ذكرناه جواب ما سأل عنه السائل -كثر الله فوائده- وأن الحرج المغفور لهذه الأمة هو ما كان من تكليف غيرهم من العقوبة على حديث النفس وما تخفيه الضمائر، وما تهتم به القلوب من غير فرق بين ما استقر وطال أمد لبثه وتردد في النفس، وتكرر حديثهما به، وبين ما مر بها وعرض عرضًا يسيرًا، فإنه مغفور لنا، ومعاقب به من قبلنا كما قدمنا ذكره.

ولا يشكل هذا التقرير الذي قررناه، بما ورد في مواضع مخصوصة مما يدل على المؤاخذة بشيء من الأفعال القلبية من دون عمل ولا تكلم، فإن ذلك يقصر على موضعه، ويخص بسببه، ويكون ما ورد منها مخصصًا لهذه العمومات التي ذكرناها،


(١) قال الحافظ في "الفتح" (١١/ ٥٥٢): وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ (ما لم يعمل) يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أم لم يتوطن، ... ثم قال: وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تجاوز لي) وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم، وأن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيده ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة لما نزلت: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} اشتد ذلك على الصحابة فذكر الحديث في شكواهم - تقدم في بداية الرسالة.
(٢) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (١١/ ٣٢٨).