للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إنكارُها كما يدلُّ على هذا كلام محمد بن جزيّ المتقدَّم ذكْرُه. فإنه فسر الآيةَ بما تقدم من قوله: (إنها لا تصيبُ الظالمين وحدَهم، بل تصيب معهم من لم يغيرِ المنكرَ، ولم ينه عن الظلمِ، وإن كان لم يظلم). انتهى.

فهذا فيه تصريح بما ذكرناه [٥أ]، ومثلُه كلامُ أَبي السعود (١) المتقدِّمُ نقلُه ... وإِذا صح هذا اندفع السؤالُ الذي أورده الرازي من أَصله، فإِنه إِنما نشأ من قوله في تفسير الآية: (أن الفتنة تتعدَّى إِلي الجميع كما تقدم نقله) ولكنه يقدحُ في تخصيص إصابة الفتنةِ لفاعل المعصية، ولمن لم ينكر عليه مع وجوب الإِنكارِ ما قدمنا من دخول بعض الفتنِ الواقعةِ بين الصحابة تحت الآية: إذ من أَصابتْه الفتنةُ من المحقينَ منهم لم تصبْه لأجل تركهِ لإنكارِ ما وجب عليه من المنكرِ, لأنهم قد قاموا بواجب الإِنكار, وسلُّو سيوفَهم في وجوه المبطلينَ من أهل الشام والخوارجِ ونحوِهم, وربما يجاب عن هذا بأن ترك الإنكار الذي هو سببُ الوقوع في الفتنة مع الظلمة لا يختصُّ بالتَّرك في نفس تلك الفتنةِ الثائرة لإمكان أن يكون قد وقع التَّرك لما يجب من الإنكار في أُمور آخرةٍ بمقدمةٍ على ثوراِنها فتسببتْ عن تلك الأسباب.

وبعدَ هذا فالأنسبُ بالعموم المستفاد من المفهوم القرآني هو ما ذكره الرازي (٢) من تعدى الفتنةِ إلى من لم يكن له ذنبٌ قطٌ, لا بمباشرته للظلمِ, ولا بترك إنكار, لأن مفهوم الآية الكريمة هكذا: (بل تصيبهم وغيرهم) والغيرُ يعمٌ المذنبَ بترك الإنكارِ وغَيْرَهَُ, ويؤيد هذا ما يتفق في كل عصر, ويشاهدُ من حلول محنِ الفتنِ [٥ب] بمثل النساءِ والصبيانِ, ومن لا قدرة له على إنكار المنكر, بل ومن كان من القائمينَ بواجب الإنكار, وهذا يعرفهُ كلُّ إنسان بالمشاهدةِ والتواتُرِ. وقد اشتملت كتبُ التاريخ من ذلك على عجائب وغرائبَ, فإن فتنة التتار (٣) طحنتْ غالبَ البلاد الإسلاميةِ, وكان من


(١) في تفسيره (٣/ ٣١٤) بتحقيقي.
(٢) في (مفاتيح الغيب) (٥/ ١٤٩).
(٣) تقدم ذكره