للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[افتقار العبد عند أهل السنة وعند المتكلمين]

هناك مسألة دقيقة ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتبه وهي: الفرق في افتقار العبد بين عقيدة أهل السنة والجماعة وعقيدة أهل لكلام.

فعقيدة أهل السنة والجماعة في افتقار العبد، خلاصتها: أن العبد مفتقر إلى الله عز وجل افتقاراً ذاتياً من حيث أن الله عز وجل هو محبوبه بالقصد الأول، ومن حيث أنه لا رغبة ولا إنابة ولا خوف إلا من الله سبحانه وتعالى، وأن هذه المحبة موجودة في طبيعة الإنسان، وأنها موجودة في أساسه.

فالافتقار عند أهل السنة يسمى: الافتقار الذاتي، أي: أن العبد مفتقر من حيث ذاته إلى الله سبحانه وتعالى من جهة وجوده، ومن جهة حاجته إليه في العبودية والاستعانة.

وأما أهل الكلام فعندهم: أن الإنسان أو المخلوقات عموماً -ويسمونها: الحوادث- مفتقرة إلى الخالق والمبدع الأول، وأن هذا الافتقار ناشئ عن الحدوث، أي: ناشئ عن حدوثه وكونه محدثاً، وليس بمحدِث.

والحقيقة: أن هذه المسألة مسألة فرعية من قضية جوهرية وأساسية عند علماء الكلام، وهي أنهم يرون أن وجود المخلوقات أساسها الحدوث، وأن علامات الحدوث كثيرة مثل: الحركة بعد السكون، ومثل: وجود تلبس الأعراض كالألوان والطعوم والروائح وغيرها، فيقولون: إن هذه الأشياء تدل على الحدوث، والحدوث افتقار، ولا يمكن أن يكون في المحدث شيء من هذه الأوصاف، فيرتبون على هذه القضية نفي صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله، وأن الله عز وجل لا يمكن أن يفعل فعلاً؛ لأنه يستلزم منه أن تكون الحوادث قد حلت بذاته تعالى، وحينئذٍ يدل هذا على تشابه بينه وبين المحدثات والمخلوقات، وهذا لا شك أنه مذهب فاسد ومنحرف؛ لأن صفات الله عز وجل ثابتة في القرآن والسنة، منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وفهم معانيها يعتمد على لغة العرب، ولا يصح أن تشبه وتماثل صفات الله عز وجل بصفات خلقه، وما يقولونه من القواعد الكلامية المخالفة للسنة، مثل قاعدة: حلول الحوادث بذات الله عز وجل، فهي قاعدة عقلية مخالفة للنصوص، وفيها كثير من الخروق العقلية، وقد تحدث عنها شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً في (درء التعارض)، وفي (بيان تلبيس الجهمية)، فأحببت أن أشير إلى هذه المسألة عند هذا الكلام؛ لأنه أحياناً في كتبه عندما يتحدث عن الافتقار يشير إلى الافتقار الذاتي الموجود عند أهل السنة، وافتقار الحدوث الذي يشير إليه أهل الكلام وما يرتبون عليه من العقائد المنحرفة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمتى كان يحب غير الله لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبداً لما أحبه، وعبداً لما رجاه، بحسب حبه له، ورجائه إياه، وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها، كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها].

قوله: مُشاهِداً، مأخوذة من الشهود، والشهود معناه: الحضور، يقال: فلان شاهد، يعني: حاضر، وعكسه الغياب، ومنه الغيب والشهادة، والأمور المشاهدة، أي: الموجودة، وهذا ما عبر عنها شيخ الإسلام، وقد يعبر عنها كثيراً ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين) أو في (طريق الهجرتين)، ويتحدث عن شهود العبد لفعله، ومعناه: أن العبد منتبه لفعله، فإذا كان العبد منتبهاً لفعله حصل عنده نوع امتنان بهذا العمل، وهذا لا شك أنه نقص في عبودية الإنسان.

فكلمة (الشهود) معناها: الحضور، وشهود القلب معناه: حضور القلب، وشهود العمل معناه: حضور العمل في عقل وقلب العابد.

وقوله: كان مشاهداً أي: منتبهاً ومقراً ومعترفاً أن الله هو الذي خلقها وقدرها وسخرها، وهذه القضية حاضرة في ذهنه كحضور الشاهد.

<<  <  ج: ص:  >  >>