للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقيقة المحبة وموضعها من العبودية]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: أن الخلة والمحبة لله تحقيق عبوديته، وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء، أو إذلال لا تحتمله الربوبية، ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها.

وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد].

هذا يروى عن مكحول.

رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح عنه.

وبالنسبة لمسألة وجود المحبة في العبودية، وأنها تعتبر من أسس العبودية فهذا أمر متفق عليه عند أهل السنة، لكن أهل البدع خالفوا في هذه القضية وقالوا: إن المحبة ليست داخلة في العبودية، وفهموا أن العبودية هي مجرد إذلال وخضوع، ولهذا قالوا: بأن العبد عابد لله عز وجل، أي: ذليل له، وأن المحبة قدر بعيد لا يستطيعها أي أحد، والحقيقة: أن المسلم أي مسلم لا بد أن يجتمع فيه الخضوع والذل مع المحبة كأصل من أصول الإسلام، ثم بعد ذلك يختلف الناس في ازديادهم في العبادة، فإذا زادت عبادته لله عز وجل زادت محبته له حتى يصل إلى مراتب عالية جداً، ولهذا كان أعلى أهل الإيمان هو النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الذي وصل إلى مرتبة الخلة التي هي أعلى المحبة، والسبب في نفي وجود المحبة في العبودية عند الصوفية وأهل الكلام: هو تعظيمهم لموضوع العبودية، وهو فرع عن مذهبهم في القدر الذي سبق أن أشرنا إليه، وقولهم بالجبر، وأن الإنسان خاضع لله عز وجل ذليل له اضطرارياً، وأن العبودية لله هي تحقيق مقتضى الخضوع الاضطراري التام الذي ليس معه اختيار بالنسبة للعبد، ولهذا فالعبودية عندهم تختلف من حيث معيتها عن العبودية عند أهل السنة، فالعبودية عندهم تقتضي مجرد الخضوع للإرادة الكونية، فإذا خضع للإرادة الكونية وخضع للأمر الكوني وللعبودية الكونية فإنه حينئذ يكون عابداً، وهذا لا شك أنه خطأ كبير؛ لأن الإرادة الكونية العامة هي ما خلقه الله عز وجل في الكون ابتلاء للإنسان، وهو مطالب بمنازعة بعض ما خلقه الله، فالله عز وجل خلق الكفر ابتلاء، وخلق المعاصي والذنوب، وخلق الحر والبرد، وخلق أموراً كثيرة مما يكرهه هو ومما يكرهه الإنسان، والحكمة في هذا الموضوع هي: الابتلاء، فيجب على الإنسان أن يدفع ما خلقه الله عز وجل من المكروهات بما أمر به من المحبوبات، فالله عز وجل خلق الكفر وأمر بالإيمان، فيدفع الكفر بالإيمان، والله عز وجل في الأمور الطبيعية خلق البرد وينبغي على الإنسان أن يدفعه بالابتعاد عن مواطنه، أو البحث عما يبعده عن مواطنه، وهكذا في سائر الأمور سواء الشرعية أو الطبيعية.

<<  <  ج: ص:  >  >>