للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اشتمال العبادة على الذل والمحبة]

عندما ذكر الشيخ معنى العبادة في اللغة وأنها تأتي بمعنى الذل والخضوع، يقال: طريق معبد، يعني: ذللته الأقدام، والعبد هو الذليل الذي في أمر سيده دائماً، زاد في الشرع معنى جديداً، حيث قال: لكن العبادة المأمور بها -يعني: مع وجود الذل والخضوع الذي هو مقتضاها اللغوي- لا بد أن ينضاف إليها أيضاً معنى جديد في المصطلح الشرعي وهو: أن العبادة تشمل الذل مع المحبة، فالمحبة لا بد من دخولها في حقيقة العبادة الشرعية، وهذا كثير في اللغة أصلاً وفي الاصطلاح، فالصلاة أصلاً معناها في اللغة: الدعاء، فجاء الشرع واستعمل كلمة الصلاة -التي معناها الدعاء في اللغة- لأفعال مخصوصة بشكل مخصوص منه الدعاء، ومنه ما هو ليس بدعاء وإنما يتضمن معناه، مثل السجود والركوع ليس دعاءً، وأيضاً فيها دعاء الصلاة، وهكذا كالصيام، فالصيام معناه: الإمساك في اللغة، فاستخدم في الشرع بمعنى: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع والمفطرات في وقت محدد.

فأحياناً الكلمة قد يكون معناها اللغوي عاماً، لكن يستخدم في المعنى الشرعي بنفس المعنى اللغوي أحياناً، يزاد فيه، وأحياناً يضبط بوقت، وأحياناً ينقص منه شيء، لكن لا بد أن يكون هناك ارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي؛ لأنه لا يمكن استخدام كلمة في غير معناها تماماً، يعني: بدون أن يكون هناك ارتباط لغوي بينهما.

فالعبادة إذاً في معناها الشرعي تشمل أمرين: الأمر الأول: الذل، والأمر الثاني: المحبة، فالذل بدون محبة ليس عبادة، والمحبة بدون ذل ليست عبادة، ومثال الذل بدون محبة: ذل بني إسرائيل تحت فرعون.

عندما يكون هناك طاغوت يحكم الناس بالحديد والنار وبالقوة، ويذلهم إذلالاً شديداً، وهم يكرهونه في قلوبهم هل يقال إن المحكومين تعبدوا للحاكم هنا؟

الجواب

لا يعتبرون متعبدين للحاكم؛ لأنهم يبغضونه ويكرهونه، ولو انضاف مع هذا الذل محبة له لصارت عبادة تامة.

وهنا نعلم بطلان رأي وفكر أصحاب الغلو الذين يكفرون المسلمين، والذين يحكمون من قبل طواغيت بدلوا شرع الله عز وجل، فهناك حكومات طاغوتية بدلت أحكام الله، وحكمت في حياة الناس بالقوانين الوضعية، كالقانون الفرنسي، والقانون البريطاني، والقانون الأمريكي، أو قانون مخلط من هذه القوانين، فبدلوا شرع الله وحكموا الناس لكنهم حكموهم بالقوة، والناس كارهون لهم، فجاء بعض أهل الغلو وقال: الناس كفار؛ لأنهم أصبحوا يعبدون الطاغوت، قلنا: كيف يعبدونه؟ قالوا: حقيقة العبادة هي الذل، والطاغوت أذلهم فذلوا، وهذه هي العبادة، قلنا: لكنهم يكرهون الطاغوت ويبغضونه، ولو كانوا يحبونه ويتعلقون به لهذا العمل الذي يعمله ويقوم به فإنهم يكونوا حينئذ عبدوا غير الله سبحانه وتعالى، لكنهم يكرهونه، ويكرهون عمله، وبعض الناس قد يقول: يوجد بعض الناس يحب بعض الطواغيت، نقول: لا يحبه لأنه بدل الدين، وإنما لأنه مخدوع إعلامياً ومضحوك عليه، وأيضاً مخدوع من بعض الذين يفتون بالباطل من علماء السوء، ومثل هذا لا يصح تكفيره، ولهذا آراء أصحاب الغلو في مسائل التكفير يجب الحذر منها والبعد عنها والرجوع إلى السنة فيما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر.

أيضاً لو أن إنساناً أحب لكن بدون ذل وخضوع فلا يعتبر عبداً لمن أحبه، فأنت تحب ابنك، تحب زوجتك، وأمك، وأباك، وتحب أصدقائك وزملاءك، وتحب من يتعامل معك تعاملاً حسناً، لكن ليس فيه ذل وخضوع، ولهذا لا يكون ذلك عبادة لغير الله عز وجل؛ لأنها تسمى محبةً طبيعية، ولا تكون عبادة إلا إذا كان فيها ذل وخضوع، وانكسار للمعبود، مع محبة وتعلق به، حينئذ يكون الفعل هذا عبادة، مثلما يفعله الشيعة مثلاً عند قبور أئمتهم، فإنهم يشعرون بذل وانكسار وحاجة لأصحاب القبور مع تعلق ومحبة وتعظيم في قلوبهم لهم، وكذلك ما يفعله الصوفية بالنسبة لأئمتهم، فهذا تعبد لغير الله عز وجل، ولا شك أنه يوصل إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى.

ثم ذكر الشيخ مراتب المحبة، وأن المحبة على مراتب من ضمن هذه المراتب: التعبد، فالعلاقة نوع من أنواع المحبة، والتتيم نوع من أنواع المحبة، والعشق نوع من أنواع المحبة، والصبابة نوع من أنواع المحبة، وكل هذه فيها أشعار كثيرة ذكر جملة منها ابن القيم في الجواب الكافي، وسيأتي الحديث عن موضوع العشق -عشق الصور بشكل خاص- وحكمه في مكانه من هذا الكتاب بإذن الله تعالى.

فقول المصنف: ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، هذه قاعدة عظيمة في هذا الباب، يجب أن تحفظ، ثم ما ذكره بعد ذلك هي عبارة عن أمثلة، ثم ختم الشيخ هذا المقطع بأنه لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستحق العبادة إلا الله، وكل من أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل، ثم ذكر الآية في المجادلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>