للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[النوع الثالث: وحدة الوجود]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما النوع الثالث مما قد يسمى فناء فهو: أن يشهد أن لا موجود إلا الله، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق].

وهذا هو الكفر المبين، وهو عقيدة أصحاب وحدة الوجود، فهم يشهدون أنه لا موجود إلا الله سبحانه وتعالى، ويفسرون لا إله إلا الله بمعنى: لا موجود إلا الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس هناك مخلوقات، وإنما هو خالق يأتي في صور متعددة، ومن هذه الصور: صورة بني الإنسان، وصورة بقية الكائنات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد وهذا يبرأ منه المشايخ المستقيمون على هدي الكتاب والسنة، كالصحابة والأئمة المهتدين، فإنهم إذا قال أحدهم: ما أرى غير الله، أو: لا أنظر إلى غير الله ونحو ذلك فمرادهم بذلك: ما أرى رباً غيره، ولا خالقاً غيره ولا مدبراً غيره، ولا إلهاً غيره، ولا أنظر إلى غيره محبة له أو خوفاً منه أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئاً أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له ولا رجاء له ولا خوف منه ولا بغض له ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه، ولا أن يراه، وإن رآه اتفاقاً رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطاً ونحوه، مما ليس في قلبه تعلق به.

والمشايخ الصالحون -رضي الله عنهم- يذكرون شيئاً من تجريد التوحيد وتحقيق إخلاص الدين كله، بحيث لا يكون العبد ملتفتاً إلى غير الله، ولا ناظراً إلى ما سواه، لا حباً له، ولا خوفاً منه، ولا رجاء له، بل يكون القلب فارغاً من المخلوقات، خالياً منها، لا ينظر إليها إلا بنور الله، فبالحق يسمع، وبالحق يبصر، وبالحق يبطش، وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه الله، ويبغض منها ما يبغضه الله، ويوالي منها ما والاه الله، ويعادي منها ما عاداه الله، ويخاف الله فيها ولا يخافها في الله، ويرجو الله فيها ولا يرجوها في الله، فهذا هو القلب السليم الحنيف الموحد المسلم المؤمن العارف المحقق الموجد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم.

وأما النوع الثالث وهو: الفناء في الموجود فهو تحقيق آل فرعون، ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم.

وهذا النوع الذي عليه أتباع الأنبياء فهو الفناء المحمود الذي يكون صاحبه به ممن أثنى الله عليهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين.

وليس مراد المشايخ والصالحين بهذا القول: أن الذي أراه بعيني من المخلوقات هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد].

فهناك بعض العبارات عند بعض المشايخ من العباد والزهاد والصالحين التي قد تفسر على غير وجهها الصحيح، وكلام الشيخ كله الآن منصب على هذه القضية، وعلى ما ينقل عن بعض الشيوخ أنه قال: ما أرى غير الله، أو قال: لا أنظر إلى غير الله، فقوله: لا يرى غير الله، ليس مقصوده بأنه لا يرى بعينيه إلا الله، فيكون معنى كلامه: أن المخلوقات هي الله، وإنما المقصود بقوله: لا أرى غير الله، يعني: لا أرى ولا أفكر ولا أعمل شيئاً إلا بالله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها).

فالمقصود: أنه تكون كل حركاته لله وبالله، وليس للمخلوق فيها شيء، فأتى المتأخرون من أصحاب وحدة الوجود الضالين الملحدين وقالوا: إن معنى قوله: ما أرى غير الله: أن كل المخلوقات هي الله، ولهذا جاء عند بعضهم: ما في الجبة إلا الله، والجبة هي: اللباس فكأنه يدعي الألوهية لنفسه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس مراد المشايخ والصالحين بهذا القول: أن الذي أراه بعيني من المخلوقات هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد، إما فساد العقل وإما فساد الاعتقاد، فهو متردد بين الجنون والإلحاد.

وكل المشايخ الذين يقتدى بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق، وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا، وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، وإن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات فيظنه خالق الأرض والسموات؛ لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء، وهم قد يتكلمون في الفرق والجمع، ويدخل في ذلك من العبارات المتلفة نظير ما دخل في الفناء، فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقا بها، متشتتاً ناظراً إليها متعلقاً بها، إما محبة وإما خوفاً وإما رجاء، فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له].

يقصد شيخ الإسلام رحمه الله: أن مثل المصطلحات: الجمع والفرق والفناء، ونحو

<<  <  ج: ص:  >  >>