للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الصوفية بين العبادة الاختيارية والاضطرارية]

والصوفية اشتغلوا بالنوع الأول من أنواع العبودية، وهي العبودية الاضطرارية، وتوحيد الربوبية، فعظموها تعظيماً كبيراً، وسموا هذا: شهود الحقيقة.

ومعنى الشهود: حضور القلب والذهن بكامله، يعني: أن يكون قلبه وذهنه حاضراً بكامله في شهود الحقيقة، وهذه الحقيقة التي يقولون: نحن نشهدها هي حقيقة العبودية الاضطرارية وحقيقة توحيد الربوبية.

هذا النوع من الربوبية إذا شهده الإنسان فإنه يورث له جزء من العبودية الاختيارية وهي سؤال الله والتوكل عليه، لكنه غير كافي حتى ينقاد للأمر والنهي، وحينئذ يكون هذا الثناء وهذا التعظيم وهذا الشهود للحقيقة الكونية ولتوحيد الربوبية يكون اشتغالاً في ما لم يأمر الله عز وجل به إلا على سبيل الوسيلة.

فالله عز وجل يأمر بتدبر مخلوقاته وتدبر الكون ليترتب على ذلك محبة الله عز وجل والخوف منه والتوكل عليه والإنابة إليه والرجوع إليه في كل شأن.

قال: [بل وإبليس معترف بهذه الحقيقة وأهل النار، قال إبليس: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:٣٦]، وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:٣٩] وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٢] وقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٦٢] وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه، بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره وكذلك أهل النار قالوا: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:١٠٦] وقال تعالى عنهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام:٣٠].

فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أمر به في الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق -الذين سقط عنهم الأمر والنهى الشرعيان- كان من أشر أهل الكفر والإلحاد، ومن ظن أن الخضر أو غيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة، ونحو ذلك كان قوله هذا شر من أقوال الكافرين بالله ورسوله، حتى يدخل في النوع الثاني من معنى العبد، وهو العبد بمعنى العابد، فيكون عابداً لله لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمر الله وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ويعادي أعداءه].

يبين شيخ الإسلام رحمه الله من خلال هذه اللوازم بطلان ما توصلوا إليه، فهناك قاعدة عند العلماء يقولون: إذا بطل اللازم بطل الملزوم، يعني: إذا كان الأمر تترتب عليه لوازم فاسدة، فإن ملزومه يعتبر باطلاً وفاسداً في ذاته.

فيقول ابن تيمية رحمه الله: إن العبودية الاضطرارية من اشتغل بها -وهي توحيد الربوبية- واعتنى بها وظن أنها هي كل شيء، وهي أول الأمر وآخره، وهي الواجب على كل العباد فإنه حينئذٍ لا يكون هناك فرق بينه وبين إبليس وغيره من الكفار، فإنهم يعرفون أن الله عز وجل هو الخالق وأن الله هو الرازق وأن الله هو المحيي والمميت.

وهذا لا شك أنه ليس هو المقصود ببعثة الرسل، لأنه لو كان هذا هو المقصود ببعثة الرسل لكان هؤلاء من الناجين، لكن الحقيقة أنهم من الهالكين؛ لعدم إتيانهم بألوهية الله عز وجل وعبوديته الاختيارية، فدل هذا على أن العبودية الاضطرارية ليست مقصودة في ذاتها، وإنما هي أمر معترف وأمر فطري يعرفه الناس من خلال فطرهم، ولا ينكره إلا الملاحدة؛ ولهذا يقول ابن تيمية في غير هذا الكتاب: ولا يوجد طائفة من بني آدم على أن هذا الكون له إلهان خالقان مدبران له في وقت واحد.

والاشتغال بهذا النوع من العبودية اشتغال بأمر مفطور عليه الناس، وأمر يتفق فيه المسلمون والكفار، والأحياء والجمادات، أما الأمر الأساسي الذي جاءت الرسل لتقريره فهو: العبودية الاختيارية، وأن الله عز وجل هو الإله وحده دون سواه.

ولهذا فإن الصوفية فسروا لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، وهكذا أهل الكلام فسروا لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، ويوجد بعض الدعوات الإسلامية اليوم عندما تأتي وتقرر التوحيد للناس تقول: إن التوحيد ومعنى لا إله إلا الله: إخراج اليقين الفاسد وإدخال اليقين الصحيح.

ويفسرون اليقين الصحيح بالربوبية والعبودية الاضطرارية، فهم يتفقون في هذا المعنى، وإن كانوا يختلفون في ما يترتب عليه.

والذين يشهدون الحقيقة الكونية أصناف سيأتي الإشارة إليهم بإذن الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>