للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحقيقة والشريعة]

ويمكن هنا أن نذكر شيئاً من عقائد الصوفية: فمن ذلك أن عندهم ما يسمى بالحقيقة والشريعة, ويقصدون بالشريعة الأحكام الفقهية العملية, وقد يسمونها في بعض الأحيان الظاهر, وأما الحقيقة فإنهم يقصدون بها الأعمال القلبية، وقد يسمونها الباطن في بعض الأحيان.

ولم يقف التصوف عند هذا الحد, بحيث يقول أهله: إن الفقهاء يعرفون أحكام الظاهر ونحن متخصصون في أحكام الباطن.

لا, وإنما أرادوا بهذا أن يقسموا الناس إلى قسمين: عامة وخاصة, فأما العامة فهم الذين يقرءون الأحكام الشرعية ويأخذون عموماتها, فمثلاً إذا قرءوا الصلاة ظنوا أن الصلاة هي هذه الصلاة التي تصلى في اليوم خمس مرات بالركعات المعهودة, وإذا قرءوا الحج ظنوه كذلك, وإذا سمعوا الجنة والنار ظنوهما كذلك, وإذا سمعوا بعض تفسير الآيات لم يفهموا منه إلا هذه المظاهر العامة التي يفهمها الإنسان عندما يخاطب بمثل هذا الكلام.

وأما هم فيقولون: نحن عندنا الحقيقة, وما هي الحقيقة؟ قالوا: الحقيقة هي شيء لا يدركه هؤلاء العوام, فهي معانٍ وأسرار لا يعرفها أي أحد، وعندما تطلع على هذه الأسرار تجد الخرافات وتجد البدع المضلة والانحرافات العجيبة.

ولهذا يعتبرون علماء السنة المشهورين -كالأئمة الأربعة وغيرهم- علماء الشريعة, ويعتبرون أنفسهم علماء الحقيقة.

فعلماء الشريعة مثل الإمام أحمد والإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي، وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق بن همام الصنعاني وغيرهم, فيسمون هؤلاء وأتباعهم المشتغلين بدراسة العلوم الشرعية يسمونهم أصحاب الشريعة, أو أصحاب الظاهر, أو العامة.

ويسمون أنفسهم وهم يتصرفون تصرفات غريبة وبعيدة عن هدي الإسلام أصحاب الحقيقة, ولهذا قد يأتي أحدهم -مثل إبراهيم العريان - ويخطب أمام الناس وهو عريان ليس عليه شيء من اللباس, فإذا أنكروا عليه ضحك بعض الصوفية وقال: هؤلاء هم العامة, ويضحك على من ينكر عليه ويقول: هؤلاء أصحاب الشريعة ما تغلغلوا في التدين وعرفوه على حقيقته كما عرفه إبراهيم العريان الذي يخطب أمام الناس وهو عريان.

ولهذا يقول الشبلي: إذا بارزونا بعلم الورق خرجنا إليهم بعلم الخرق يقول: إذا احتجوا علينا بعلم الورق الذي هو علم الكتب والدراسة وحفظ الأحاديث والمسائل كما كان السلف الصالح عليه؛ برزنا إليهم بعلم الخرق.

فما هو علم الخرقة عندهم؟ إن الخرقة خرافة، فهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرقة وبايعه على الطريقة التي هي طريقة الأسرار وطريقة الحقائق كما يتصورونها, وصارت الخرقة هذه رمزاً وعلامة على أن من أخذها فقد وصل إلى الحقيقة، فـ علي بن أبي طالب بايع من بعده, وكل واحد يبايع الآخر.

فإذا جئنا إلى أهل السنة وما عندهم من العلوم وجدنا أنهم يقولون: حدثنا فلان قال: أخبرنا فلان, قال: أنبأنا فلان عن فلان عن فلان, بإسناد متصل.

وأما هؤلاء فيقولون: نحن لنا علم آخر غير العلم الذي أنتم عليه, نحن علمنا وإسنادنا هو عن طريق الخرقة, أخذت الخرقة عن شيخي الفلاني, عن شيخه الفلاني عن شيخه الفلاني, حتى وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

فما هي فائدة هذه الخرقة؟ قالوا: هذه الخرقة عبارة عن رمز, وعبارة عن طريقة إذا تعلمها الإنسان فإنه يحدث عن الله مباشرة, فيقول: أنبأني قلبي عن ربي مباشرة, ولا يحتاج إلى قوله: (أنبأنا فلان عن فلان عن فلان عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين) , فأسانيدنا طويلة, أما أسانيدهم فقصيرة.

ولهذا فإن الكشوف التي يحصلون عليها يعتقدون أنها يقينية مائة في المائة، ولا يشكون فيها, وسيأتي معنا الإشارة إلى هذا عندما نتحدث عن الأولياء عندهم بإذن الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>