للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف المكلف من القدر]

وقد يقول قائل: نحن نسمع أنه يجب التسليم للقدر! ونقول: القدر نوعان: نوع داخل تحت مقدور الإنسان فعله أو تركه، فهذا الذي هو داخل تحت مقدور الإنسان لا يجوز له أن يرضى به، وإنما يجب عليه أن يتبع الأوامر والنواهي الشرعية.

ونوع آخر غير داخل تحت مقدور العبد، مثل المصائب التي تحصل عليه، فيجب أن يرضى.

وأضرب على هذا بأمثلة حتى نستطيع أن نميز بين القدر الذي يمكن للإنسان أن يرضى به، والقدر الذي لا يمكن له أن يرضى به، فعندما خلقنا الله عز وجل خلقنا بأشكال معينة، خلق الطويل وخلق القصير، وخلق الأبيض وخلق الأسود، وخلق العربي وخلق العجمي، فهذه أمور ليست داخلة تحت مقدور العبد، فيرضى بها، وكذلك المصائب التي تقع على الإنسان، فلنفترض أن إنساناً ابتلي بمصيبة فأتاه سرطان مثلاً، فإنه يصبر ويرضى بما قسمه الله له، ولا يعني هذا أنه لا يتداوى، ولكن يرضى بما قسمه الله عز وجل له، ويكون هذا الرضا من العبادات، فالمصائب والأشياء التي ليست داخلة تحت مقدور العبد هي الأشياء التي يرضى بها.

لكن هناك أشياء لا يصح له أن يرضى بها، ومثال ذلك في إنسان يريد أن يعصي بمعصية، ويقول: المعاصي خلقها الله، وما دام أن الله خلقها فأنا أرضى بها وأفعلها! نقول: لا، حتى لو خلقها الله، فالله عز وجل خلقها ونهاك عن أن ترتكبها، فإن قال: إذاً لماذا خلقها؟ نقول: للابتلاء، حتى ينظر هل تطيع أو تعصي.

وحينئذ لا يجوز لك أن ترتكب هذه المعصية وتقول: إنني أرضى بالقضاء والقدر! فهذا كلام باطل، ولهذا يقول السلف الصالح رضوان الله عليهم: يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب التي تقع على الإنسان بغير اختياره؛ إذ لا شك في أن الإنسان لا يختار المصيبة لنفسه، كحادث سيارة تنقطع فيه يد إنسان، فهو في حالة انقطاع يده لا بد من أن يرضى، ولو تسخّط لكان آثماً.

وهناك الذنوب والمعاصي، فالذنوب والمعاصي لا يجوز أن تحتج بالقدر عليها، لأنك تستطيع أن تبتعد عن الذنب وأن تتركه، لأنه داخلة تحت اختيارك، فالفعل والترك داخلان تحت اختيارك، فلا يمكن لإنسان أبداً أن يزعم أنه غير مختار عندما يريد أن يفعل الزنا، أو عندما يريد أن يأكل الربا، أو عندما يغتاب وينم، بدليل أنه يستطيع الترك، كما أننا نجد في الواقع أشخاصاً كانوا يعصون الله عز وجل ثم تابوا وأصبحوا صالحين يعبدون الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن ذلك تحت قدرة الإنسان، فالإنسان بإمكانه أن يفعل الطاعة وبإمكانه أن يفعل المعصية، لكن المصائب تأتي أقداراً، ولا يمكن للإنسان إذا قدر الله عليه بمصيبة أن يبتعد عنها، ومن ثم نقول: الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، فيصح للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب عندما تقع عليه، لكن الذنوب والمعاصي لا يجوز أن يحتج الإنسان بالقدر عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>