للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان معنى شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية]

سبق أن قلنا: إن الشيخ في هذا الكتاب بعد أن قسم العبودية إلى قسمين: العبودية الاضطرارية، والعبودية الاختيارية؛ بيّن ضلالات فرقة من أشهر الفرق في هذا الموضوع، وهم الصوفية، فقال: وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية.

وسبق أن عرّفنا بالصوفية، وأهم العقائد التي عند الصوفية، ونقدنا أهم هذه العقائد.

ومعنى شهود الحقيقة الكونية في اصطلاح الصوفية: رؤية الحق بالحق وصورة الشهود عندهم هو أن الإنسان يتعمّق في أمر من الأمور حتى ينكشف له ويصبح مثل رؤية العين، فهم يعظّمون الحقيقة الكونية، ويعظّمون توحيد الربوبية إلى درجة أن كان هاجسهم وأساس الدين عندهم، فهم يريدون أن يشهدوا كيفية خلق الله تعالى المخلوقات، وتقديره المقادير، وكيف أن الله سبحانه وتعالى رزق العباد، وأنه هو النافع وحده، وهو الضار وحده، وهو المدبر لشئون الخلق جميعاً وحده، ويشتغلون بهذا الأمر ويقفون عنده.

وسبق أن قلنا: إن هذا الشهود لا يكفي في ثبوت الإسلام، فإن كفار قريش كانوا يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وكل أمم الأرض يعرفون أن الله عز وجل خالق، وهذا لا يكفي في النجاة من النار، ولا يكفي في ثبوت الإسلام للإنسان حتى يضاف إلى ذلك أن يشهد أن لا إله إلا الله ويقر بتوحيد الله عز وجل في أفعاله التي يقوم بها، ولهذا علّق الشيخ على فعل هؤلاء الصوفية فقال: [وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وإبليس معترف بهذه الحقيقة] وهي أن الله خالق وأنه رازق سبحانه وتعالى [وأهل النار]، ثم أثبت ذلك بقوله: [قال إبليس: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:٣٦]] إلى آخر كلامه عن هذا الموضوع، ثم قال: [فمن وقف عند هذه الحقيقة] وهذا هو حال الصوفية [وعند شهودها] يعني رؤيتها [ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته] يعني: لم يقم بتوحيد الإلهية [وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار] فأهل النار جميعاً يشهدون الحقيقة الكونية، ويعرفون أن الله هو الخالق الرازق، وكذلك إبليس يعرف ذلك، وحينئذ لا فائدة من شهود الصوفية لهذه الحقيقة.

ثم بيّن ما يترتب على شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية، وهو سقوط التكاليف، فإن لشهود الصوفية الحقيقة الكونية عندهم مبدأ ومنتهى، فالمبدأ عن طريق الخلوة والأوراد، والمنتهى هو الكشف وسقوط التكاليف، ولهذا يقول الشيخ هنا: [ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنه الأمر لمشاهدة الإرادة ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالله ورسوله] ثم بعد ذلك شرع في قضية أخرى مهمة، فبيّن أهمية إدراك الفرق بين العبودية الاضطرارية والعبودية الاختيارية، وهذا الفرق سبق أن أشار إليه، لكن جمعه في هذه الفقرة، وهي أن الإنسان إذا أفنى عمره ونفسه في إدراك العبودية الاضطرارية؛ فإن هذا لا ينفعه حتى يضاف إليه الإقرار والالتزام بالعبودية الاختيارية وهي مقتضى توحيد الإلهية، يقول: [وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي حتى يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، التي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية].

إذاً: الحقائق الدينية هي الأساس، وهي -كما قلت- توحيد الإلهية؛ وسبق أن أشرنا إلى أن توحيد الإلهية هو الحكمة من خلق الجن والإنس، وهو دين الرسل الذي بعثوا به، وهو منهاج دعوتهم، وهو الذي لا يقبل الله عز وجل ديناً سواه، وهو معنى الإسلام ومعنى الإيمان، فإن الإسلام معناه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، والاستسلام هو توحيد الإلهية، وكذلك الإيمان فإنه قول وعمل، وهو توحيد الإلهية، كما سبق أن أشرنا إلى هذا الموضوع في تعريف توحيد العبادة.

<<  <  ج: ص:  >  >>