للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تقسيم غلاة الصوفية للناس في باب الأمر والنهي إلى عامة وخاصة]

قال المؤلف رحمه الله: [ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلاً، وأثبت له صنعاً، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن الله هو المتصرف فيه كما يحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد.

وقد يقولون: من شهد الإرادة سقط عنه التكليف، ويزعمُ أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف لشهوده الإرادة، فهؤلاء يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد، وأنه مريد ومدبر لجميع الكائنات].

خلاصة قول هؤلاء أنهم يفرقون بين الناس، ويرون أن الناس على قسمين: قسم يسمونهم العامة، وقسم يسمونهم الخاصة.

ويرون أن العامة هم الذين لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهوداً كافياً، وأن الخاصة هم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهوداً كافياً.

ويزعمون أن العامة هم الذين لاحظوا أن الأمر والنهي لازم لأفعالهم، يعني: لم تتمكن منهم شهود الحقيقة الكونية إلى درجة أنهم تسقط عنهم التكاليف الشرعية، وإنما العامة قوم يعرفون الحقيقة الكونية، لم يشهدوها إلى درجة اليقين، فيعرفون الحقيقة الكونية معرفة عامة، ويلاحظون أن الأمر والنهي متعلق بأفعالهم، وأنهم ملزمون بالأمر والنهي، وأن لهم صفات، وأن لهم أفعال يفعلونها بإرادتهم وقدرتهم واختيارهم قالوا: هؤلاء العامة.

وهذا الوصف الذي يصفون به هؤلاء الناس -يعني: العامة- وصف انتقاص؛ فإن هؤلاء لم يصلوا إلى مرحلة من التعبد والشهود لهذه الحقيقة الكونية إلى درجة أنه يشعر بأنه لا صفات له ولا أفعال له، وإنما الفاعل هو الله، وأنه عبارة عن محل لفعل الله، وليس هو فاعلاً في الحقيقة، وإنما هو محل لفعل الله، مثل الإناء عندما يكون محل للماء.

ومثل أي شيء يحرك كما يقولون في العصر الحاضر بالريمونت، يعني: ليس فاعلاً فعلاً اختيارياً، وإنما الله عز وجل هو الذي يحركه، وأن الإنسان لا إرادة له، وهو مسلوب الإرادة، يقولون: نحن توصلنا إلى هذه النتيجة من خلال شهود الحقيقة الكونية.

ويترتب على هذا القول أن الفعل الذي يقوم به الإنسان ليس فعله، هو فعل الله، وأن العمل الذي يقوم به ليس عمله، هو عمل الله.

ويترتب على هذا أيضاً: أنه بسبب شهوده لهذه الحقيقة تسقط عنه التكاليف لأنه لا فعل له، فالتكليف يكون عندما يكون للإنسان فعل، ويحاسب على هذا الفعل، لكن إذا كان ليس له فعل فكيف يحاسب؟ وكيف يكون الإنسان يجازى على عمله؟ هذا لا فعل له، وإنما الفعل الذي فيه هو فعل الله، وحينئذٍ تسقط عنه التكاليف، فلا يكون مطالباً بالأوامر والنواهي، ولا يطالب بالصلاة ولا بالصيام ولا بالحج ولا بالزكاة، ولا يطالب بترك الزنا، ولا يطالب بترك الشرك، ولا يطالب بترك الخمر، ولا يطالب بترك أي عمل من هذه الأعمال، فهو يعمل ما يشاء، لكن هذه ليست إرادته هي إرادة الله، وليس فعله هو فعل الله، فهو محل لإرادة الله ولفعله كما زعموا.

وهذا لا شك أنه قول في غاية الكفر، والسبب هو: أنهم جعلوا هذه الأفعال القبيحة التي يفعلونها، هي فعل الله، فإذا كفر نسبوه إلى الله، وإذا زنى نسبوه إلى الله، وإذا شرب الخمر نسبوه إلى الله، وجردوا الإنسان من إرادته، مع أن هذا مخالف لحقيقة الإنسان في الدنيا الآن، ومخالف لشعوره، ومخالف للواقع الذي يعايشه، وهو أن له إرادة وله عمل وهو محاسب على إرادته وعمله.

ولهذا تلاحظون أن الصوفية من الجبرية، إذا سئلت: من الجبرية؟ يعني: الذين يرون أن العباد والناس مجبورون على أفعالهم؟ فالصوفية تعتبر من أكبر طوائف الجبرية، فالجبرية طوائف منهم الصوفية ومنهم الأشعرية، ولهذا عامة صوفية الأشعرية يتفقون علماً وعملاً، فالجانب العلمي يغطيه المذهب الكلامي الذي يتبناه الأشاعرة.

والمذهب العملي يغطيه الجانب الصوفي الذي يركز على الجانب العملي، مع أنه في الحقيقة قد جرد الإنسان عن العمل.

إذاً: الخاصة هؤلاء لا يرون أن الناس كلهم يسقط عنهم التكليف، وإنما يرون الخاصة هم الذين يسقط عنهم التكليف.

وأما العامة يلزمون بالأمر والنهي حتى يشاهدوا الحقيقة الكونية.

والفرق بين الطائفة الأولى والثانية: أن الطائفة الأولى ترى أن الكل يسقط عنهم التكليف؛ لأنهم مجبورون على أفعالهم، وأنه لا أفعال حقيقة لهم.

والطائفة الثانية يجعلون الناس قسمين: قسم عامة وهم الغالب، هؤلاء لم يشهدوا الحقيقة الكونية، ويرون أنهم ملزمون بالأمر والنهي ويرون أن لهم صفات وأن لهم أفعالاً، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه النتائج الباطلة حسب زعمهم هي أنهم لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهوداً تاماً.

والقسم الثاني: الخاصة، وهم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهوداً تاماً، وهؤلاء لا صفات لهم ولا أفعال لهم ولا إرادة لهم، وإنما هي أفعال الله وصفات الله وإرادة الله، وأن هذه الأعمال التي يقومون بها ليس لهم أي شيء، فيها سواءً الخير أو الشر، وأنه يسقط عنهم التكاليف؛ لأن التكليف يكون لمن له إرادة، ولهذا شبَّة هؤلاء الإنسان الذي شهد الحقيقة الكونية حسب زعمهم بأنه خالٍ من

<<  <  ج: ص:  >  >>