للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دفع القدر بالقدر فطرة وشرع]

إن الذين يحتجون بالقضاء والقدر ويقولون: الله خلق الفساد، وخلق المعاصي، وخلق الكفار، وخلق المنافقين، فلماذا تشغلوننا بمحاربة هؤلاء وبمواجهتهم وبمقاتلهم، وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وبالحسبة عليهم؟! لماذا تشغلوننا بذلك مع أن الله قدر ذلك وكتبه؟! نقول لهم: نعم قدره الله وكتبه، لكن قدر وكتب أن نرد هذا المقدر المكتوب.

وهذا القدر المقصود به: الابتلاء، فإن الله عز وجل قدر ذلك ليختبرك أنت؛ ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد مع أنه يعرف أن كفر كفار قريش هو من قدر الله عز وجل، وكذلك قام الصحابة من بعده، وقاموا بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وقام أئمة الدين بالدعوة إلى الله عز وجل، وإصلاح النفس، وإصلاح المجتمع.

وهناك فرق كبير بين إنسان يعتقد أنَّه ليس في الإمكان أحسن مما كان، فيعتقد أنه هذا الوضع وضع طبيعي، وأن الأخطاء موجودة منذ زمن، وكذلك المنكرات، وبين شخص يتعامل مع الواقع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فبعض الناس إذا قيل له: انتشر التبرج، فلا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن وبالكلام الطيب، قال: يا أخي! في الزمن الماضي كان هناك تبرج وسفور يوم كان الجهاد في سبيل الله قائماً.

ونقول: صحيح أنه كان هناك تبرج وسفور، لكن هل معنى هذا أن يقره الإنسان؟! بل يدفعه بقدر ما يستطيع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلمة الطيبة.

وبهذا ينتشر الخير، وينتشر الصلاح على قدر نشاط أهله وعلى قدر بذلهم وجهدهم وقناعتهم بأن إيصال الحق إلى الناس أمر ضروري جداً، وأنه من قدر الله الواجب علينا.

وأما المعاصي والمنكرات فقد خلقها الله سبحانه وتعالى، لكن أمرنا بدفعها، وهكذا ركب الله عز وجل هذا الكون وجعله مدافعة، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:٢٥١]، فأهل الحق يدفعون أهل الباطل، والمؤمنون يدفعون الكفار، وأهل الدعوة والإخلاص يدفعون أهل النفاق، وهكذا يكونون في مجاهدة، والجميع من قدر الله عز وجل، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة، ورد الباطل من القدر الواجب الذي يعاقب عليه الإنسان إذا لم يقم به.

يقول: [فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين ما قد يخاف من آثار ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل]، فلو أن إنساناً جاءه الجوع فقال: لا أريد أن آكل، لأن الجوع قدر الله، أو جاءه البرد فقال: لا أريد أن أستتر من هذا البرد؛ لأنه قدر الله، أو جاءه الحر فقال: لا أريد أن آتي في مكان مبرد؛ لأن الحر قدر الله لكان سفيهاً، فالحر والجوع والبرد من قدر الله، كما أن الذنوب والمعاصي من قدر الله، فلماذا الذنوب والمعاصي نرضى بها ولا نرضى بالحر والجوع؟! فلو كان عند الإنسان توحيد خالص لآلمته هذه الذنوب والمعاصي كما يؤلمه الجوع، والجميع من قدر الله سبحانه وتعالى.

يقول: [وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلب يُدفع به مكروه، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقىً نسترقي بها، وتقىً نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله)] وهذا الحديث في إسناده ضعف، لكن المعنى صحيح وثابت في نصوص أخرى، [وفي الحديث: (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض)] هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وابن ماجة في سننه، وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة في المجلد الأول.

يقول: [فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله، وكل ذلك من العبادة، وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية -وهي: ربوبيته تعالى لكل شيء- ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني والشرعي على مراتب في الضلال] ثم بدأ يذكر مراتب هؤلاء.

ونلحظ هنا أنه ذكر مراتب الضالين في شهود الحقيقة الكونية، وأخرج أهل الاتحاد والحلول وذكرهم قبل ذلك؛ لأن فساد مذهب أهل الحلول والاتحاد واضح جداً، لكن هؤلاء فسادهم أقل من أولئك، وكل له مرتبته ودرجته.

<<  <  ج: ص:  >  >>