للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المنحرفون في باب العبودية والآثار المترتبة على هذا الانحراف]

وبينا أن المنحرفين في موضوع العبودية هم طوائف، فبينا انحراف المرجئة، وهم أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية، وبينا سببه، وبينا الآثار المترتبة على هذا الانحراف، كما أننا بينا انحراف طائفة أخرى في هذا الموضوع، وهي الصوفية، وقلنا: إن الصوفية انحرفت في مبدأ العبودية وفي المنتهى، في الوسيلة وفي الغاية، فأما المبدأ فإنها انحرفت في مسألة كيفية السلوك إلى الله سبحانه وتعالى، حيث اختطت الصوفية منهجاً بدعياً في السلوك إلى الله عز وجل عن طريق الخلوات، وعن طريق الأذكار والأوراد البدعية التي تكون بترديد الاسم المفرد (الله) أو الاسم المضمر مثل: (هو، هو، هو، هو) وهكذا حتى يصل الإنسان إلى الكشف، فهم في مبدأ العبودية انحرفوا، وفي طريق السلوك إلى الله عز وجل انحرفوا، وكذلك انحرفوا في النتيجة، وانحرافهم في النتيجة هو أنهم تصوروا أن النهاية والغاية التي يصل إليها السالك هو أن يعرف أن الله هو خالق هذا الكون، ويشهد خلقه سبحانه وتعالى، ومعنى الشهود هو رؤية الخلق أعياناً، ومعنى رؤية الخلق أعياناً عندهم أن يشعر الإنسان شعوراً لا يخالطه شك بأنه لا يوجد ذرة من ذرات هذا الكون إلا والله عز وجل وراءها، وهذا الكلام حق، لكنهم وقفوا عنده، فظنوا أن المطلوب من العباد هو هذا الاعتقاد فقط، وأنه إذا اعتقد الإنسان أنه لا يوجد شيء في هذا الكون إلا والله وراءه فقد وصل إلى نهاية العبودية، وهذا خطأ؛ لأن كفار قريش كانوا يعلمون أن الله هو الخالق الرازق، وما نفعهم هذا العلم، ويؤمنون بذلك، وما نفعهم هذا الإيمان، كما قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥]، فهم يعرفون أن الله هو الخالق الرازق، وما نفعهم ذلك؛ لأنهم جعلوا في أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم وسائط بينهم وبين الله عز وجل يعبدون غير الله عز وجل بها، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦]، فأثبت لهم الإيمان في الأولى، وهي توحيد الربوبية وإثبات الخلق والرزق والإحياء والإماتة ونحو ذلك، ونفى عنهم توحيد الإلهية الذي هو الغاية القصوى من خلق الخلق ومن بعثة الرسل، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، وكل رسول يرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩].

إذاً: النهاية التي عند الصوفية غير النهاية التي عندنا، فنهاية التعبد عندهم هي إثبات توحيد الربوبية، ونهاية العبودية عندنا هي إفراد الله عز وجل بالعبادة خالصة له.

وسبق أن بينت الآثار العظيمة المترتبة على هذا الأمر، وقلت: إن الخلاف في الواقع المعاصر بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبين الصوفية في زماننا ليس خلافاً همجياً، وليس خلافاً صورياً، وإنما هو خلاف حقيقي، والذين قالوا: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الخوارج أو من التكفيريين، أو أنه يكفر المسلمين بالذنوب أو نحو ذلك ما قالوه اعتباطاً، بل قالوه بناء على عقيدة فاسدة موجودة عندهم، فنسبوا الشيخ - مع أنه على السنة المحضة الواضحة - إلى عقيدة التكفير وعقيدة الخوارج لينفروا الناس منه، وهذا سبق أن بيناه بشكل مفصل، ولما تكلمنا عن الصوفية قلنا: إنهم غلوا في توحيد الربوبية، وذلك أنهم غلوا في الإرادة الكونية التي هي موافقة للخلق.

<<  <  ج: ص:  >  >>